تركت تركيا التجارب الشمولية الشرقية خلفها، في حدثٍ سياسي نادر، وبهذا أمكنها صناعةَ قادةٍ من طراز مختلف، وعلاقات سياسية جديدة عن الدول العربية والإسلامية.وكل بلدٍ إسلامي يشكلُ تطورَهُ من جذورهِ الخاصة، ومن موقعِ تجربتهِ وبلده وحجمها، وليس من الفراغ التاريخي.وقد وجدت تركيا نفسها بأنها قائدةُ المسلمين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأنها تحكم أغلبية هذا العالم الإسلامي، ثم وجدتْ الدولَ الغربية تنتزعُ هذه الأغلبية منها بالقوة، بل تهاجم أراضيها لتحتلها!فظهر قائدٌ عسكري في هذه الفترة الخطيرة سماه الحدثُ الرسمي بأنه أتاتورك أبوالأتراك وهو منصبٌ أسري سياسي غير ديني.وهو ليس قائدا غائرا في صحراء العرب أو جبال إيران بل هو زعيمٌ يجثم في فم أوروبا الجائعة للمستعمرات أثناء هزيمة الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، فإما أن يستسلم وإما يزول!لقد قام كمال بهزيمة المعتدين على بلاده، وقيادتها في سبيل الحداثة، فصارع الماضي المتخلف والحاضر الغازي، فانتصر على الاثنين.وهو لا يملكُ حزباً تحديثياً أو كوادر فكرية بل يعتمد على جيش وشعارات عامة. ولن نتوقع منه أن يعالج قضايا المجتمع المعقدة والمركبة إلا بأسلوبه العسكري، أسلوب تحديد الخصم، ثم احتلال مواقعه واحداً بعد الآخر بالضربات القاضية!وقد حدد العدو الهدف وهو التخلف الديني، فوجه مدافعَهُ نحو مواقعه الحصينة الكبرى المتجسدة في جيوش الدراويش وهو آخر ما بقي من عصر الصوفية الذي لم يتجسدْ في خرقٍ بل في مستوياتٍ اجتماعية بذخية وهلوسات غير عقلانية، فُضربت التكايا والزوايا وتم تحطيم حشود العصر الوسيط الذي يتقلبُ في حشيش الدروشة.وتبصر أتاتورك الحداثة الغربية في علمٍ ونشيدٍ وحروف وهي رموزُ الجيشِ الوطني العَلماني الذي شكله، وسماهُ في ميدانِ السياسةِ حزبَ الشعب الجمهوري، فأطاحَ برموز الخصم القروسطية الشكلانية وهي الحروف العربية والأذان بلغةِ العرب واللباس كي يجعلها أدوات للإطاحة بالقرآن وهو لا يعرفهُ، ثم قام بإصلاحاتٍ مثل المساواة بين الرجال والنساء، وأتاح للفئات الوسطى الحريات في الفكر والتجارة والحياة، فعكس مستوىً دكتاتورياً عسكرياً للحداثة بلا جذور شعبه الإسلامية. ولكنه حاولَ الحداثةَ بذلك المستوى الفكري المحدود الذي يملكه!إن البنيةَ التحديثيةَ التي شكلها ظلتْ بنيةً شموليةً يؤسسُها نظامٌ غيرُ ديمقراطي، موجهاً مدفعيتَهُ الثقيلةَ نحو منظماتِ الصوفية التي تراءى لها من جانبِها بأن أتاتورك كافرٌ شديدُ الكفر، فحدثتْ معارك ضاريةٌ بينه وبين الطريقة الصوفية السائدة في ذلك الوقت (النقشبندية)، وهو أمرٌ يشير إلى الافتراقِ الشديدِ بين واقع (الإسلام) الذي تشكلن وغدا طقوسياً تخديرياً غيرَ عقلاني وعبر هذه الممارسات المتوجهة لتخريف سياسي واستغلالية ارستقراطية باعتْ ودمرتْ حاضرَ المسلمين!وقام البطلُ هنا أتاتورك المحدود المعرفة والجاهل بتاريخهِ الحضاري الديني وليس العسكري، بالتوجه بشكلٍ معاكسٍ حاد نحو الغرب. فأطلقَ مدفعيتَهُ على الطُرقِ الصوفيةِ والأبنية الدينية والتراثية والشعارات التاريخية والذاكرة الإسلامية.فكان لهذا التحديثِ القمعي إنجازاته وسلبياته، فقد عبرَ بتركيا من محنة التبعية وشمولية التخلف إلى مجالاتٍ نهضة واسعة، وقد ربطَ تركيا بأكثرِ العوالم تحضراً وديمقراطية، لكن من خلال حكم عسكري دكتاتوري، فحدث تناقضٌ خطيرٌ بين شكلِ النظامِ ومؤسساتهِ الشمولية وبين أهدافهِ الديمقراطية التحديثية، وراحتْ الطبقةُ الحاكمةُ العسكرية التي جاءتْ من بقايا الدولة العثمانية والمؤسسات الحاكمة تتقلبُ وتتغير في محاولةٍ للمزاوجة بين الشكل والمضمون، بين التكوين الكمالي العَلماني العسكري، وبين حاجات الشعب، بين شعارات عامة مؤدلجة وتاريخ ذي تراث عريق، فجاءت قوانينٌ مخلتفة وعهودٌ متباينة، ومشت وزاراتٌ مختلفة منتخبةٌ على هذا الحبل المشدود بين الحكم ومصالح الأغلبية الشعبية، فتحررت الأملاكُ والقوانين العامة قليلاً قليلاً من الهيمنة وأطلق سراح الجماعات الدينية، وعادتْ الدولةُ لشيءٍ من الأعمال الدينية، وتشجيع الإرث الإسلامي، وحدث حراك للجماعات السياسية الدينية، بسبب وجودها بين الأغلبية الشعبية التي تريد طرح مطالبها وحقوقها الاقتصادية المعاشية، في حين ان الطبقة الحاكمة القديمة تمترست في تقاليد أتاتورك السياسية خائفة من مد شعبي ديني متخلف يحطم منجزات الماضي الديمقراطية والحريات، خاصة هذا المد المتشكل في الأرياف.فظهرت حقبةُ الاعتدال السياسية وتشكلتْ بصعوباتٍ جمة هذه الجماعاتُ السياسية الجامعةُ بين جذور المجتمع الإسلامية وتنظيمات وأساليب الحداثة، ولكن الأهم هو تعبيرها عن طبقة وسطى حرة راحت تصارع امتيازات الطبقة العَلمانية الأتاتوركية التي نشأتْ في عالم شمولي، ونشأت في أحضان الحرب الباردة وكراهية الشرق والمسلمين واليسار، فجمعت بين منظمات الغرب العسكرية وأسواقه وبين وجودها في الشرق، ثم تنامت هذه العملية بشكل مطول صراعي كبير.
صحيفة اخبار الخليج
4 يونيو 2010