لقد تصاعد الدور التركي الديمقراطي الإسلامي العلماني في المنطقة العربية.إن تركيا لعبت دوراً تاريخياً في تشكيل العالم الإسلامي (السني خاصة)، ولم تستطعْ العلاقاتُ التقليدية للسلاطين والباشوات أن تلاحقَ عصرَ التحولات الديمقراطية الغربية، وراحتْ تركيا تنفضُ الأرديةَ التقليديةَ للنظامِ السابق المتخلفِ خاصةً في احتضارهِ الأخير الذي قُدم كوجبةٍ سياسيةٍ شهية للغرب الاستعماري وقتذاك.ولكن العلاقة بالغرب الديمقراطي لعبتْ دوراً كبيراً في تطور تركيا المستقلة بعد ذلك، فقد حمتها علاقاتُ التبعية هذه من الشموليات الشرقية، ومن الأنظمة الدكتاتورية المتغلغلة في كل مجالات الاقتصاد والوعي ومن الملكيات العامة الشمولية.ولم يكن لهذه التناقضات دور كبير في عالم الصراع بين ما كان يُسمى المعسكر الاشتراكي وما يُسمى المعسكر الرأسمالي، فتركيا كانت مجردُ حجرٍ صغير في دولاب الغرب، وحين سقطت القيود على التطورات الديمقراطية في الاتحاد السوفيتي، ولم يعد ثمة قيمة خطيرة كونية معرقلة لحلف شمال الأطلسي، لم يعد ثمة قيمة للجنرالات الاتراك العلمانيين المتسلطين المتغربين عن تاريخ المنطقة وتراثها الديني وقيمها النضالية، وهم الذين كونوا طبقة الفساد الضعيفة في المجتمع التركي، فجاءتْ أحزابُ الطبقة الوسطى من التضافر بين الحداثة والإسلام ووجدت في العالم الإسلامي سوقها الحقيقية الواسعة، في حين قدم الغرب مصانعَ لعمالها المهاجرين فقط.واستثمرتْ القيادةُ التركية هذه الأوضاعَ، وقدمتْ نفسَها كبطلٍ جديد في حياة المنطقة، في حين عجزتْ الدول العربية كافة عن دور البطولة هذه!هذه المفارقةُ المذهلةُ ليست نتاجَ زعامةٍ مجردة، بل إن الزعامةَ السياسية التركية التحديثية استفادتْ من وجود حريات اقتصادية وسياسية طويلة وفرها النظامُ الديمقراطي العلماني!ولولا وجود طبقة وسطى حرة أنبتها وزرعها ورعاها الغربُ ما كان للنضاليةِ الديمقراطية الإسلامية والإنسانية أن توجد وتترعرع، ويكون لها دورٌ مغايرٌ عن دور الطبقات الحاكمة المتبلدة في العالم العربي العائشة على القطاعات العامة الفاسدة!هذ الجبر الحسابي السياسي يغدو غير مفهوم للجماعات الدينية الجامدة المحافظة، ولكن الحراك التركي التحديثي راح يؤثر في بعض التوجهات الدينية السياسية، ويفتح آفاقاً جديدة لها، ولعل ذلك يقود لبعض الفهم والتفتح والتأثير في المنطقة وفي قضية فلسطين الموضوعة في الثلاجة الإسرائيلية بل المقبرة.فمسألة الصواريخ المضرة استعيض عنها بسفنِ سلامٍ وفكِ حصار وأغذية، وهو شكلٌ إنساني مؤثر، ينتشرُ على مسرح البحر الأبيض المتوسط الواسع قلب العالم، ويجبر مختلف الأمم على الرؤية والتأثر، وكشف من هو المتجبر والظالم.ورغم الضحايا فإن الخسائر المعنوية والسياسية الكبيرة لإسرائيل وعزلة وهزيمة الدولة العبرية كانت كبيرة، وهذا التحول الكوني ضد هذه الأساليب الوحشية التي غدت ملازمة لإسرائيل، غيرت تماماً تاريخاً طويلاً من ادعاء صورة الحمل الوديع.وبدلاً من العمليات الانتحارية والصواريخ التي لا تفرق بين جندي وطفل، راحت سفن السلام تمزق وجه إسرائيل الفاشي، الذي تفتت أمام العالم بشكل لم يسبق له مثيل.لعل اللغة التركية السلمية المصعدة لكفاح متحضر قد هزمت عدة لغات فوضوية وعنفية حادة في المنطقة، وخاصةً هي تعملُ لكي تكون مؤثرة قوية في العالم العربي، المبهور والمرحب بعودة السلاطين من آل عثمان وهم تجار ديمقراطيون وجمهوريون يجمعون بين الحداثة والإسلام.إن هذا الأسلوب هو جزءٌ من التراكم الديمقراطي التركي خلال العقود الماضية، لكنه ينتقل الآن إلى المنطقة ككل، ويجذب بعض القوى العربية والعالمية السلمية الديمقراطية في نضال مشترك، ويُحاصرُ فيه الجنرالات الإسرائيليون مثل الجنرالات الأتراك العلمانيين المتغربين، لكي يُدرك جنرالات إسرائيل خطورة علمانيتهم المتغربة غير الإنسانية، وغير المتفهمة لتاريخ المنطقة ودور الإسلام المحوري فيها، وليتكشفوا نوعية ديمقراطيتهم الشمولية الساحقة للشعب الفلسطيني وللعمال الإسرائيليين معاً.وضعت الحكومةُ التركية عبر أدوات التحديث والنشاط السلمي القمعَ الإسرائيلي في زاويةٍ ضيقة، لم تُطلقْ طلقةُ واحدة، ولم تُهدد بصواريخ ولم ترفع شعارات سحق إسرائيل، بل استخدمتْ أبسطَ الأدوات السلمية، وهذه اللغة لها تأثيرٌ كبيرٌ، في عزلة التطرف الإسرائيلي وهزيمته القادمة المتصاعدة، وفي نمو النضال الفلسطيني الموحد، وإنفصال القوى الديمقراطية الإسرائيلية عن الدكتاتورية الحاكمة.وإذا استخدم التطرفُ في الجهة العربية الأساليب الإسرائيلية القمعية نفسها تحدث الخسارة مجدداً، ولا يحدث التراكم وهزيمة التطرف الصهيوني.
صحيفة اخبار الخليج
3 يونيو 2010