ثمة مظاهر وتجسدات شيئية وقيميّة تميز الرأسمالية الأمريكية الفظة، ونظامها السياسي، وجهازها البيروقراطي المعقد، عن الرأسماليات الناضجة في الغرب الأوروبي، من ذلك مثلاً ما خرج به قبل أيام الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون على مواطنيه الأمريكيين، من دعوة عاطفية استجدائية، لمساعدة زوجته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على سداد ديونها الناجمة عن خوضها معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي خسرتها لصالح الرئيس الحالي باراك أوباما.
في التفاصيل فإن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وجه رسالة إلكترونية إلى مناصري زوجته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يدعوهم فيها للتبرع، لمساعدتها في تسديد ديون حملتها الانتخابية الرئاسية الفاشلة عام ,2008 وهي ديون تبقى منها، بحسب صحيفة وول ستريت جورنال’ في أبريل الماضي 771 ألف دولار تدين بها لشركة ‘بين شوين وبرلاند’ الاستشارية التي قدمت المشورة لهيلاري كلينتون، وهي شركة يملكها مدير حملتها السابق مارك بين.
ولكي يحفز بيل كلينتون أنصار حملتها الانتخابية السابقين على دعم حملة التبرعات هذه، فإنه عرض عليهم أن يسافر المتبرعون (لاحظ على حسابهم الخاص) إلى نيويورك لقضاء اليوم معه، إذا تبرعوا بخمسة دولارات أو أكثر من 11-18 مايو .2010 وهذه ثاني مرة يتقدم فيها بيل كلينتون لطلب المساعدة المالية لزوجته، لتسديد ديونها الناتجة عن ترشحها لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.
ولكي يكتمل مشهد ‘اللؤم’ الاستجدائي، فإن الموقع الإلكتروني للوزيرة هيلاري كلينتون، دعا الأفراد للتبرع بمبلغ أقصاه 2300 دولار، وذلك لتفادي دفع الضرائب في حال زاد المبلغ عن الرقم المذكور.
وكانت ديون السيدة كلينتون المترتبة على إدارة حملتها الانتخابية قد بلغت 2,25 مليون دولار، تم دفع الجزء الأعظم منها في حملة جمع التبرعات الأولى التي نظمها الزوجان، ولذا فقد كان سؤال الرسالة الإلكترونية التي وجهها الرئيس الأمريكي السابق للمتبرعين هو ‘إن حملة هيلاري مازالت عليها ديون متبقية، أعرف أنها تود أن تراها مسددة بالكامل، فهل تتقدم اليوم لمساعدة هيلاري مرة أخرى هي الأخيرة’؟.
ولك أن تعلم عزيزي القارئ أن السيدة كلينتون نفسها قد أقرضت من مالها الخاص حملتها الانتخابية 13 مليون دولار استردتها بالكامل.
والأدهى من ذلك أن الزوجين كلينتون كانا قد كسبا 109 ملايين دولار منذ أن غادرا البيت الأبيض عام 2007 من إلقاء المحاضرات والخطابات، ونشر المذكرات، والتي تصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعاً.
ونسجا على منوال الموروث الرأسمالي الأمريكي، الذي أحالته الممارسة التراكمية عبر السنين إلى تقاليد، تشكل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة السياسية الأمريكية السائدة، فلقد اعتمدت السيدة كلينتون اعتماداً تاماً على الأثرياء من المتبرعين الذين دفع غالبيتهم أقصى ما يسمح به القانون من المال.
ولذا، وكما نقول نحن في الخليج بلهجتنا الدارجة ‘صار ما لهم عين يفتحوا وجوههم’ على هؤلاء مرة ثانية، فكان لابد وأن يوجها حملة تسولهما نحو عامة الناس، الذين لولاهم ولولا أصواتهم لما استطاع المال السياسي أن يرفع من يشاء ويذل من يشاء من الساسة الأمريكيين، ومن أولئك الطامحين الجدد لتسلق قمم المجد والشهرة والنعيم والعيش الرغيد.
ماذا يعني هذا وما هي دلالاته؟
إنه يعني ببساطة أن السياسة الملعونة، وخصوصاً باعتبارها أحد مكونات الثقافة الأمريكية البنيوية الفوقية السائدة، تفترض إباحة كل شيء.. ودلالات ذلك عديدة لعل أبرزها:
(1)التكسُّب والتسول السياسي ممارسة أمريكية اعتيادية، يمارسهما كبار الساسة وصغارهم على حد سواء. فعندما يتحول ‘مذهب’ ‘إذا لم تستحِ فافعل ما شئت’ إلى مكوِّن عضوي في أنساق قيم و’مناقبيات’ الوسط السياسي الأمريكي، التي تغذيها لوبيات المصالح النافذة وتمويلاتها المشرعنة والأخرى غير المشروعة للسياسيين وحملاتهم الانتخابية، ناهيك عن استخدامها الواسع للمال السياسي للتأثير على قرارات وتشريعات الكونجرس المتصلة بمصالحها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة - فإن ذلك يؤذن بتفسخ الأساس الأخلاقي للرأسمال الاجتماعي الذي يشكل الحاضنة الأساس للنظام ككل.
(2) رغم الخاصية الفريدة، ‘الغريزية’ إن شئتم، التي يتمتع بها النظام الرأسمالي مقارنة بالأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي سبقته، والأخرى المنافسة له، من حيث قدرتها على تجديد نفسها باستمرار لمقاومة سنن شيخوختها وتهالكها، وذلك بفضل ديمقراطيتها المؤسسة على سيادة حكم القانون - رغم ذلك إلا أن مثل هذه وغيرها من التكهنات التي نالت كثيراً من بنية الديمقراطية الأمريكية العريقة، تشير بأنها قد أدت غرضها واستنفدت خزينها القيمي والتنظيمي، وذلك نتيجة للتداعيات والآثار التي أفرزتها الأطوار الفوضوية التي اجتازتها الرأسمالية الأمريكية، واندفاعها المحموم من طور الرأسمالية المغامرة إلى طور الرأسمالية المقامرة (GAMBLING CAPITALISM). وهما طوران تَطَوُّريان، ينطويان بالضرورة على إحداث ندوب غائرة في البعد الأخلاقي للديمقراطية الأمريكية، وأن تحيل هذه رويداً رويداً إلى ديمقراطية نخبوية يتحكم فيها كبار الأثرياء، ويسيطر على سلطتها التشريعية نواب وشيوخ من نفس الطبقة.
ومن المؤكد أن الوسط السياسي الأمريكي قد أصبح مدركاً لهذه التداعيات ومخاطرها على مستقبل الديمقراطية الأمريكية، وهو لذلك يحاول جاهداً العمل على تجديدها وإعادة بث الروح في أطرها التنظيمية وأنساقها القيمية، ولعل الإصلاحات التي يقوم الآن الرئيس باراك أوباما بتنفيذها والتي شملت بصورة رئيسة حتى الآن نظام الرعاية الصحية، بجعله أكثر شعبية ‘وشمولية’، والنظام المالي والمصرفي بوضع ضوابط صارمة على أعمال المقامرة بالأموال التي تميز ممارسات ‘وول ستريت’، والتي تسببت في العديد من الأزمات الهيكلية للاقتصاد الأمريكي، آخرها وأخطرها الأزمة المالية الأخيرة - لعل هذه الإصلاحات تصب في هذا الاتجاه.
صحيفة الوطن
29 مايو 2010