احتاج الأسلوبُ الرأسمالي للإنتاجِ إلى عدةِ قرون لكي ينمو ويتبلور ويتصارع ثم يقاربُ وحدةً عالمية متنافسة كذلك.
منذ الكشوفات الجغرافية وهذا الأسلوب يتشكل في الغرب، في أوروبا الغربية بقوة كبيرة، ثم يتمدد إلى أمريكا الشمالية التي وجد فيها قارة بكراً.
إن الدولَ الرأسمالية القيادية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا تركت هذه القيادة للولايات المتحدة الأمريكية، التي أهلتها السوق الجغرافية الهائلة، وغياب الجذور والمشكلات الإقطاعية، وحضور قوى عاملة بكر، والتمدد في قارة أمريكا الجنوبية، لكي تصبح القوة الرأسمالية الكبرى الأولى، وظهر ذلك في ميادين السياسة عبر الحرب العالمية الأولى ثم الثانية التي حسمتها مع الاتحاد السوفيتي.
كان حضورُ الرأسماليات الشرقية متأخراً في عمر التشكيلة الرأسمالية العالمية، واستعانَ هذا الحضور بأدواتِ الدول، وبفضاءِ الايديولوجيات الشرقية الدينية والتعاونية، ثم تنامت المضامين المتوارية لهذه الرأسماليات.
وبعد عملياتِ التوحيد الرأسمالية العالمية التي تمت قسراً بإنهاك المعسكر “الاشتراكي” ودفعه نحو التغيير، وبالاعتماد على المعسكر القديم المراكم للرأسمال الكوني، تصاعدت عملياتُ النمو الرأسمالية بفوضوية واشتباكات بين مختلفِ أقسامِ الرأسماليات الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، أمريكا الجنوبية، أوروبا الغربية، أوروبا الشرقية، اليابان، روسيا، الصين، جنوب شرقي آسيا، الهند، استراليا، جنوب افريقيا.
تفوقتْ أمريكا على غيرها بسببِ الأسبقية التاريخية في قارة ذات موارد كبيرة وبلا عوائق سوى الهنود الحمر الذين قضت عليهم الأسلحة الحديثة بسرعة، ثم تنامتْ عملياتُ العنفِ السياسي الأمريكية الشمالية من أجلِ حيازةِ الأسواق، مما وسمَ الطابعَ السياسي الحكومي الأمريكي بالاجرام، وهو أمرٌ شكل حزبين عنيفين لطبقةٍ واحدة ذات ولايات متشابهة.
إن غيابَ فعل الطبقات العاملة الشعبية الأمريكية هو بسبب هذه الفوائض الضخمة التي انهمرت على السوق الأمريكية الداخلية خلال قرنين، وهذا المستوى المتطور للإنتاج.
ولهذا نرى عقوداً طويلة من خفوت الفعل الشعبي داخل أمريكا، خاصة مع انتشار العصابات الاجرامية السياسية، وقوانين الكبت، ووجود المعسكر الاشتراكي السابق الذي كان يُبرر هذا القمع.
لكن نمو الأسلوب الرأسمالي للإنتاج أقوى من الأشكال السياسية التي تتمظهر بها علاقات الإنتاج، فهو يندفعُ ليشكلَ توحيدا عالميا لذاته، فوق فسيفساء الأمم والشعوب والأديان والأنظمة، بسبب انه أسلوب إنتاج توحيدي رغم تفكيكه وتمزيقه.
أطاحتْ قوةُ البخار والقاطرات بالممالك الإقطاعية في أوروبا، وأطاحتْ الثورةُ التقنية والمعلوماتية بدول المعسكر الاشتراكي، وقادتْ هذه الثورة لتوحيد الكرة الأرضية عبر جسور الإنترنت والسلع، وستؤدي إلى المزيد من التغيير في دول الأسواق الشرقية المحتكرة، ويقود دول الشرق لثورات صناعية تقنية بشكل متسارع يغير علاقات الهيمنتين الذكورية والسياسية والتخلف الزراعي ومستويات القوى العاملة المتخلفة.
لقد وضعت موازين القوى الولايات المتحدة في مركز القيادة في هذا الوضع التاريخي المضطرب المتسارع النمو، واستغلت القوى المتنفذة ذلك في التهام الفوائض النقدية من العالم النازف.
تدعو برامج المحافظين الأمريكيين إلى إلغاء كل حماية، وإلى فتح كلي للأسواق وتغييب الملكية العامة، لكن هذه تؤدي إلى مزيد من الاضطرابات وفوضى الإنتاج، مثلما أن بقاء الملكيات البيروقراطية العامة، لا يقود إلى تطور قوى الإنتاج في الدول الشرقية وتحرير القوى العاملة من الهيمنات الحكومية.
وجود الأمم المتحدة في أمريكا، ظهور قيادات من حكومات عالمية، تطور منظمات الأمم المتحدة المختلفة، كلها يشير لضرورة حكومة عالمية أو تعاون دولي وثيق يتجه نحو حل تناقضات العالم المعاصر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتشير عملية الإزاحة للمحافظين الأمريكيين ونهوض الطبقات العاملة والمفكرة في الولايات المتحدة وتنامي تأثيرها في السياسة العامة، ومجيء رئيسين ديمقراطيين إصلاحيين داخليا وخارجيا: كلينتون وأوباما، وتصاعد حكومات اليسار في أمريكا الجنوبية، وهيمنة القوى الشعبية على البلديات في أوروبا الغربية، وعودة اليسار الديمقراطي لأوروبا الشرقية، حتى باتت رأسمالية النزيف العالمي وتوجه الفوائض نحو العالم الرأسمالي المتطور محل إعادة نظر عميقة.
فقارة مثل افريقيا تحتاج إلى عمليةِ إنقاذ كبرى، بدأت الكثير من الدول تقترحها.
كذلك ظروف العالم الإسلامي والعديد من دول الشرق تحتاج إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية وليس إلى تكديس الأسلحة والفقر والحروب.
لم تعدْ مقبولةً الآن نظرية السوق الحرة الكاملة، وعدم تدخل الدول كإشراف وتخطيط، خاصة على المستوى العالمي، فعملية التغيير في الأسلوب شرقية، وعملية التآكل في الأسلوب غربية، وعملية التداخل بينهما على المستوى العالمي؛ صراعاً وتكاملاً، تتطلب الخروج من العفوية المحضة، ومن غياب التخطيط، إلى العملية الاقتصادية التعاونية المشتركة التي سوف تظهر مع تصاعد أصوات الأغلبية المنتجة في كل بلد وعلى المستوى العالمي.
وتظل القوى المالكة هي المسيطرة بطبيعة الحال لكن الأزمات وانهيار بعض الاقتصادات الشرقية، واختناق الأسواق تدريجيا بسببِ تحول كل الدول إلى مصدرة للسلع، هو أمرٌ يجعلُ من التبادل من أجل التبادل يمضي في طريق مسدود.
هذا منظورٌ مستقبلي بطبيعة الحال.
صحيفة اخبار الخليج
29 مايو 2010