في أبريل الماضي، وفي إحدى ابتداعاتها الفكرية التنموية المتجددة لتنويع قاعدتها الاقتصادية، افتتحت سنغافورة ثلاثة أبراج مهيبة تضم كازينوهات عالمية المستوى تريد من خلالها محاكاة مدينة لاس فيغاس وجزيرة مكاو المجاورة. وكانت من قبل قد أضافت قطاعات اقتصادية جديدة إلى سلسلة القطاعات التي تشكل صرحها الاقتصادي الناهض ومنها قطاع الهندسة الحيوية وقطاع صناديق التحوط الإقليمية.
إلا أن التعليم يبقى هو الأولوية رقم واحد والذي تفوقت في مناهجه لحد تحولها إلى تجربة نموذجية صارت تستوردها بعض الدول المهتمة بتطوير مناهجها التعليمية.
روسيا أيضاً اختارت أن يكون التعليم أولوية تنموية وطنية، إلى جانب تحديث جيشها.
ماليزيا التي كانت حتى وقت قريب (إلى ما قبل مطلع ثمانينيات القرن العشرين الماضي)، دولة فقيرة يبلغ متوسط دخل الفرد فيها أقل من ألف دولار، جُل سكانها الذي كان يبلغ آنذاك 14 مليوناً (اليوم 27 مليون نسمة) يعملون في زراعة المطاط والموز والأناناس وصيد الأسماك، فإنها تقف اليوم في مصاف كبرى القوى الاقتصادية الصاعدة في آسيا يُتوقع لها بموجب خطة 2020 التي وضعها مهاتير محمد قبل مغادرته السلطة طواعية في عام ,2003 أن تصبح رابع قوة اقتصادية في آسيا بعد الصين واليابان والهند.
والفضل كل الفضل في ذلك يعود للتعليم أولاً وأخيراً، حيث قرر مهاتير منذ البدء، منذ أن أصبح رئيساً للوزراء في عام 1981 أن يكون التعليم والبحث العلمي على رأس الأولويات التنموية لحكومته، حيث اختص التعليم وتدريب وتأهيل الحرفيين بحصة وفيرة من ميزانية الدولة، وركز على البحث العلمي وتعليم الإنجليزية. كما ابتعث عشرات الآلاف من الماليزيين دون تفريق بين انتماءاتهم الدينية (حوالي 18 ديانة) للدراسة في أعرق الجامعات العالمية.
الهنـد كما نعلم من الدول الرائـدة في مجال التعليم الأوَّلي والثانوي والفني (Primary, Secondary and Vocational Education)، ويعود الكثير من الفضل في نهضتها الاقتصادية إلى التعليم ومناهجها التعليمية الموازية لمناهج التعليم في البلدان المتقدمة سواء في فروع علم اللسانيات أو العلوم التطبيقية والإنسانية.
الهند هذه بالذات، وهي التي مازالت محسوبة على منظومة البلدان النامية شأنها شأن الصين، هي التي تسترعي الانتباه هذه الأيام باتجاهها نحو فتح آفاق جديدة أمام قطاعها التعليمي، غير مكتفية على ما هو ظاهر بما حققته من منجزات تعليمية أهلتها لأن تكون إحدى القوى الكبرى في العالم في إعداد وتأهيل وتخريج آلاف الكوادر العلمية والفنية، وتزود بها سوق العمل الهندي وأسواق العمل العالمية، لاسيما العمالة التقنية التي تسجل طلباً متزايداً من جانب الدول الرائدة في تكنولوجيا المعلومات.
اعتمدت الهند على إمكاناتها وطاقاتها الذاتية في إطلاق مشروعها النهضوي وفي القلب منه التعليم والتدريب، ومع ذلك فقد شجعت لاحقاً المؤسسات التعليمية العالمية الرائدة والمستثمرين الدوليين على الاستثمار في قطاع التعليم الهندي ذي العائد العالي على الاستثمار، إلا أنها لم تكن لتسمح لهذه المؤسسات التعليمية العالمية بإنشاء حرم جامعي (أرض الجامعة ومبانيها التابعة) كما هو الحال بالنسبة للجامعات الهندية. فلقد كان مسموحاً للجامعات والمعاهد والكليات الجامعية الأجنبية بتبادل البرامج والمواد التعليمية وإنشاء الشراكات مع المؤسسات التعليمية الهندية. وكانت القيود على التدريس وعلى أجور الطاقم التعليمي سبباً في تحديد حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في التعليم العالي. في شهر مارس الماضي اتخذ مجلس الوزراء الهندي قراراً يسمح لمؤسسات التعليم العالي العالمية بإنشاء حرمها ومبانيها الجامعية، وأحيل القرار في صورة مشروع قانون إلى البرلمان الهندي للمصادقة عليه. ويتوقع الكثيرون أن يسهم هذا القانون في إحداث نقلة نوعية أخرى جديدة في قطاع التعليم الهندي.
هذا القانون الجديد يستجيب لحاجة الهند المتزايدة لمواكبة ومقابلة متطلبات الزيادة السنوية في عدد المقاعد الدراسية للتعليم العالي التي تزداد سنوياً والتي تتراوح حالياً ما بين 5,1-2 مليون مقعد مقابل 1,1 مليون مقعد في السنوات الثلاث الأخيرة. وبحسب مصادر مؤسسات التعليم العالي العالمية فإن الهند بقطاعها التعليمي المتنامي تعتبر أكثر إغراءً للمستثمرين التعليميين من جارتها الصين. وما يميز الهند عن الصين في هذا المجال إجادة مخرجاتها التعليمية للغة الإنجليزية ووجود كتلة بشرية شابة هائلة، حيث إن نصف سكانها هم دون الخامسة والعشرين.
ماذا يعني هذا؟
إنه يعني ببساطة أن النخبة السياسية الهندية، الحاكمة والمعارضة، وأوساط قطاعات المال والأعمال الهندية، ومعهما كافة أطياف منظمات المجتمع المدني التي تتميز بالديناميكية والحيوية، تدرك أن قصب السبق في ‘المباراة’ التنموية الحضارية العالمية، سيكون من نصيب الدول صاحبة الامتياز والميزات التنافسية الراجحة في مجال المورد البشري، المعجون و’المصقول’ في نظام تعليمي بالغ الكفاءة وعالي النوعية.
فماذا نحن فاعلون في العالم العربي إزاء تحدي التنافسية التعليمية؟ القراءة الأولية للمعطيات تقول إن الدولة العربية الحديثة ‘تطوعت’ للقيام بدور الراعي للمجتمع في كل شؤونه، وإنها، بالمنطق، لم توفر، خلال ‘رعايتها الكاسحة’ هذه، قطاعاً حيوياً بالغ الأهمية في ديناميكيات الإدارة الكلية الشاملة كقطاع التعليم. فكان الحصاد على مدى العقود الخمسة الأخيرة حتى نهاية الألفية الثانية معقولاً، كي لا نقول متواضعاً، بحسبان نوعية مخرجات العملية التعليمية المتواضعة وغلبة العلوم الإنسانية على العلوم التطبيقية. وبعد اندفاعة العولمة وتمددها وتغلغلها جغرافياً وحضارياً على مستوى الكرة الأرضية، اندفع القطاع التعليمي العربي المُوَجَّه، لتلقف ومحاكاة البعد الاستثماري التوسعي للعملية التعليمية المعولمة، وبصورة شابتها العشوائية والتكالبية، حيث شهد العالم العربي موجة اندفاع للاستثمار الخاص في التعليم والتدريب من دون أن يُمهد لهذه الاندفاعة بوضع ضوابط ومعايير تحول دون سيطرة العقلية ‘الميركنتلية’ (التجارية الصرفة) على الغايات الاستراتيجية من ‘استدعاء’ التعليم لتصدر المشهد التنموي العربي. العالم العربي اليوم يمتلك فرصة تاريخية تتيحها ثورة الاتصالات والمعلوماتية و’الهبّة’ الاستثمارية الوطنية والدولية ناحية قطاع التعليم، لإحداث الفارق التنموي ومقابلة تحدينا الحضاري الشامل، بشرط وجود الرقابة الشفافة والضوابط الحاكمة لنشاط القطاع.
صحيفة الوطن
22 مايو 2010