المنشور

العلمانية الإسلامية والتضحية

تشكل الإسلامُ من تضحياتٍ كبرى، لهذا نجدُ رموزَ الإسلام تعيشُ على الحدِ الأدنى من الرزق الذي لا يبتعدُ كثيراً عن معيشة العامة والفقراء المدقعين، وبرفضِ الهيمنة على المال العام.
في عمليات تأسيس الدول ظهرت قوى صارمة وتكريس الدين بقوة شديدة، لكون ذلك كان تأسيساً لأمم إسلامية في مرحلةٍ مبكرة قبلية.
نجد لدى الرموز الدينية تكريسا كبيرا للتضحية، فلديهم سلطة هائلة وقدرات فكرية تأسيسية للمذاهب، لكنهم تجنبوا التداخل مع الحكومات ورفض أخذ الأموال منها وقبلوا بالعيش الزهيد.
عرض أبوجعفر المنصور على الإمامِ أبي حنيفة النعمان مبالغ معينة كمساعدةٍ له، فقال له إنه يقبلها بشرطٍ وهو أن توضعَ في بيت المال وإذا إحتاج إليها أخذَ منها وبطبيعة الحال لم يحتج إليها وواصل اجتهاداته الدينية غير المقبولة لأبي جعفر.
وعرضَ أبوسلمة الخلال القائد العباسي الكبير على الإمام جعفر بن محمد (الصادق) حكم الامبراطورية الإسلامية الهائلة فرفضها متشبثاً بدراسةِ العلوم.
بعد مرحلةِ التأسيس التضحوية تلك جاءت مراحل الأنانية. وكلما ازداد التصاق الدين بالحكم وبتبرير أحكامه والمعيشة على أرزاقه وعطاياه ضَعُفت الأحكام الفقهية والسياسية والرؤى الفكرية والأدبية، وضعفت مُثـُل التضحية العظيمة، وانحط المثقفون ورجال الدين وتدهور فهم الدين.
التضحيات تقود إلى انفتاح الدين وديمقراطيته حتى بعناصر صغيرة محاصرة وسط الفساد، ولهذا لا عجب أن يكون المتصوفة أكثر الناس انفتاحاً وحباً لجميع الأديان، لأنهم يعيشون على ما يسد الرمق، ولا يوجهون أية سكاكين للآخرين، وصدورهم متسعة لحب البشر، معتبرين الرؤى الفكرية كافة صادرة عن نضال البشر للحرية والتقدم.
في حين ازدادت الكراهية والشمولية وبغض البشر لدى الدينيين الشموليين، إنهم مرتعبون خوفاً على تسلطهم على البشر ونفاقهم للدول وحصولهم على ثروات طائلة، لهذا فهم ضيقو الصدر فاقدون للتسامح عاجزون عن القيام بإصلاحات من أجل الجمهور، الذي يتخوفون من تطوره. يرغبون في استمرار تخلف الجمهور وانحباسه في الظلمات وعدم حريته وعلمانيته
وتزداد خطورتهم حين يلتصقون بالدول الشمولية العسكرية حيث يهددون المسلمين والبشر بالإبادة الساحقة.
التعبير الكلي للخلفاء الراشدين عن المصالح الأساسية لأغلبية الجمهور لا تنفي الشمولية والدينية ولكن كاستقلال تام عن مصالح الكبار الاستغلاليين، فهم ليسوا في خدمة الأقليات، وهذا ما يجعلُ ذلكَ ديمقراطيةً اجتماعيةً تحتاجُ كذلك إلى ديمقراطية فكرية، وهي أقصى الدين وهي علمانية كذلك لأنها إبعادٌ للدينِ عن استغلالهِ في الصراعاتِ السياسية ولمآرب الملأ الشخصية – الاجتماعية الطبقية الخاصة، وهذه تناقضاتُ العصرِ التي لا مفرَ منها.
إن استقلاليةَ الأئمةِ اللاحقة جرتْ بعد انتصار الملأ الديني الجديد، الذي وظّفَ الإسلامَ في صراعاتهِ السياسية المتعددة، سيطرةً على الحكومات ودعوة لتشكيل نفس الحكومات الاستبدادية، ليس لتجديد حال المسلمين وتقدمهم، إلا من الاستثنائيات التي تصارعُ شبكاتٍ غالبةً.
وهكذا فإن خيوطَ التجديد الوامضة كانت هي في استقلالِ الأئمةِ عن دول الفساد، وهنا (علمانية) مغايرة، فهي انفصالٌ عن السياسة الحاكمة الجائرة غالباً، وتأييدٌ للسياسة الحكيمة المنصفة التي تندر الظهور لدى هذا الخليفة أو ذاك.
ولم تتشابكْ علومُ الاجتماعِ والطبيعةِ والتاريخ والفقه في ذلك الحين لإنتاج رؤى تجمعُ بذورَ الديمقراطيةِ والعلمانية وتلتقطُها من تحت ترابِ السير الاجتماعي المضطرب الدامي لجموع الناس المتصادمة وللأمم الإسلامية المتكونة، بل كانت النقائض.
في الزمن الحاضر صار من الأهميةِ أن يكونَ الفقهُ مستقلاً، ألا يختلط بالسياسة، وأن يكون له تبحره الخاص. هو فلسفةٌ دينيةٌ عميقة تقرأُ وجودَ الأمم الإسلامية وتطورها.
أعاقت التدخلاتُ الطويلةُ هذا الفقهَ من أن يكونَ أولاً معبراً عن الأغلبيةِ العامة، فجعلتهُ للأقلية، وأن يقرأ ثانياً الضرورات العميقة لتكونِ وتقدمِ الأممِ الإسلامية، وهو التكونُ الذي يطورُها ولا يذيبها، إنها ضرورات الاقتصاد والاجتماع والعلوم.
وكذلك تصلُ ما انقطعَ من فلسفةٍ عقلية إسلامية بأن الطبيعةَ لها قوانين سببية موضوعية خارج إرادتنا، والمجتمعات لها قوانين سببية يجب أن نعرفَها ونسيطرَ عليها لكي نبقى ونتقدم.
لابد أن يتبحرَ فريقٌ من أجل ذلك، ولا ينحشر الجميعُ في النصوص الجزئية والأحكام القريبة، وأن يُرى العامُ والضرورات، لكن هذه لا تتكونُ بدون تراكم المعرفة الغزيرة والانفصال عن الدول وعدم العيش منها وعدم العيش من الأحزاب والجيوش والقوى الأجنبية.
ففي حين ازدادَ التصاقُ جماعاتِ الدين المنظمةِ بالدول ازدادتْ المشكلاتُ وتفاقمتْ لدرجة الكوارث والأخطار الكبار، لكونها تجلبُ العامةَ المتحمسةَ غير المدركة إلى ساحات الصراع فيتم استغلالها عبر أدواتِ الاضطرار والحاجة وليس عبر أدوات العمل الحر. وبدون أن يكون للعامةِ مصالح عيش مستقلة وموارد حرة تكون أصواتُها في الانتخابات أو في الهيجان مع الدول مضرة.
ظهرَ زمنُ الفقيه المصلح – الحكومي، وهو نموذجٌ يكررُ أخطاءَ الماضي، فهو ما ان يسيطر على الموارد حتى يتكاثر الناس حوله وينافقونه للوصول إلى نخرِ المصالح العامة، وهذا يؤدي إلى أضرار على مستوى الفقه وعلى مستوى الحكم.
وهذه مجموعةٌ من المعضلات تواجه البلدان الإسلامية بأن يكون الحكم مستقلاً عن المذاهب، وأن يحدثَ نضالٌ من أجل حرياتِ الأعمال ويخفتُ زمنُ الدول الشمولية المهيمنة على أغلب الموارد والمصالح والثقافة والاعلام، ومَن يُرد هنا أن يشكلَ فقهاً لمصالح الأغلبية أو لمصالح الأقلية فليشكل، وأن تغدو البرلمانات صناديق للتغييرات الاقتصادية والاجتماعية باتجاه الآراء السكانية الغالبة.
أن يحدث صراعٌ بين قوائم (اليمين) و(اليسار)، الاقتصاديين الاجتماعيين، اللامذهبيين، اللادينيين.

صحيفة اخبار الخليج
20 مايو 2010