قادت الفئاتُ الوسطى في البحرين والكويت وغيرهما من دول الخليج حركةَ التغيير والتحرر الوطني في المنطقة، للأسباب المماثلة التي حركت الفئات الوسطى العربية، فلم يؤسسْ الاستعمارُ البريطاني أجهزةَ دولٍ اقتصادية تمنع التجار من الحراك الواسع، بل ركز في تغييب النشاط السياسي، وعدم وجود أسلحة ومنع الرقيق، ومنع السخرة في الزراعة، ونشر بعض الحريات، وهذه الجوانب ساعدتْ على صعود الفئات التجارية وحراكها الذي بدأ فكرياً عبر الأندية والتجمعات الثقافية ثم صار سياسياً ربما بسرعةٍ غيرِ ناضجة.
إن هذه العقود أعطتْ الفئات الوسطى التجارية أفضل نتاجاتها الفكرية والسياسية، لكن لغياب الجذور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العريقة أُصيبتْ الحركات بالمراهقة، وهو أمرٌ لم يقتصر على مدن الخليج الصغيرة بل تعداها إلى البلدان العربية الكبيرة، فإن هذه الموجةَ الليبراليةَ العربية التي تشكلتْ في ظل الاستعمار الغربي لم تدمْ طويلاً، ومالبثت القوى الوطنية التحررية ذات النزعات الشمولية أن تصاعدت، وفي البحرين كان الأمر شبه كارثي في .1956
انسحبَ قادةُ التجار بعد هزيمةِ الحركة الوطنية في الخمسينيات، وكان أولئك القادة قد انغمسوا في الحركة القومية ذات النزعة الشمولية، التي لم تتضافر مع التوجهات الليبرالية السطحية في منطقة الخليج، مما جعلها حادةً عنيفة، غير قادرةٍ على إحداث تراكم ديمقراطي لا في الثقافة ولا في السياسة.
كان هؤلاء القادة قد جاءوا من الفئات الدنيا من التجار، ولم يظهروا من البيوتات التجارية القديمة، وكان هذا تعبيراً عن سيادة نزعة المغامرة في التجارة والسياسة، فهذه الجذورُ غيرُ القويةِ في الاقتصاد التي لم تكوّنْ ثرواتٍ كبيرة، وجاء دخولـُها للعمل التجاري سريعاً، لم يتحْ لها الزمنُ أن تتجذرَ في فهمِ الليبرالية والديمقراطية على مختلفِ أصعدتهما، وركبتْ الحماسَ الشعبي الذي أخذها بدوره إلى ما لا تريده، إلى الفلتان السياسي.
وكان هذا كذلك مصير البلدان العربية بأغلبها حيث لم تستطع الجمعَ بين عمليات التحرر الوطني وعمليات التحرر الاجتماعي، فجمع رأس المال كان صعباً، وتشكيل ديمقراطية في الثقافة والسياسة كان صعباً كذلك، وبهذا فقد سادتْ البيوتاتُ التجاريةُ الغارقةُ في الهموم الاقتصادية المنفصلة كلياً عن السياسة والثقافة، وهو أمرٌ أدى إلى التصحر الفكري وإلى غيابِ طبقةٍ داعمةٍ للثقافة وللتيارات الفكرية السياسية.
بطبيعة الحال فإن تسربات الصراع الوطني كانت تتسللُ من تحت المجاري الخلفية، عبر بعض الأبناء الذين دخلوا التيارات السياسية المختلفة.
ومهما كانت طبيعة الحركات السياسية التي تتالت بعد ذلك فقد كانت في ذاتِ المناخ الشمولي سواءً في القومية أو اليسار، ولم تظهرْ إمكاناتٌ وقدراتٌ لتراكم تجربة ديمقراطية عميقة، وهذا قد عبر إلى أي مدى كان رأسُ المالِ حذراً من القطاعات العامة الكلية المتصاعدة، فانكمشت مساهماتُ القطاعات الخاصة في السياسة والثقافة أكثر من الفترة الأخيرة للاحتلال، وفي الكويت كان الأمرُ مختلفاً، فكان الحكامُ والتجارُ في مسار واحد، حتى بدأت الشموليات في تحجيم هذه التجربة.
لقد أسهمت الأجهزةُ والاتجاهات الشمولية في تشكيل مناخ التصحر السياسي هذا، وزاد الأمرُ سوءا عندما لم تقدمْ الدولُ العربية بديلاً ديمقراطياً، وغدت الدولُ القوميةُ تصدرُ ثقافة تحررية عسكرية لم تجذب أثرياء التجارة والمال.
وإذا كانت الثروة النفطية قد استدعت تحشد القوى الغربية ونفوذ أجهزتها، فإنها كذلك أعطتْ لرأس المال المحلي قفزات في وضع التجارة والصناعة والبنوك، وغدا التصحرُ السياسي للتجار مركباً على غيابِ الأفكارِ الوطنية المتجذرة في الأرض، التي صارتْ مجردَ حصالات، لا يُعرف ما وراء وجودها الحديدي من مشكلاتٍ عميقةٍ ومن تضاريسَ سياسيةٍ معقدةٍ متضاربة، ومن عمالة متخلفة، وهذا توافقَ مع النزعةِ الأمريكية السائدة بتحرير الاقتصادات من هيمنة الدول، من أجل تدفق سيولتها عليها، فتبخرت الوطنيات أكثر من السابق.
إن محدودية النزعة الوطنية لها جذورٌ في تربةِ الجزيرة العربية ودولها المتفتتة، القائمة على تاريخ الترحال والظعن وحب الموارد، ومن هنا يقيم كبارُ التجار في الخليج فيللاً متجمعة أشبه بالمضارب البدوية السابقة، وبخلاف القبائل العربية فهذه القبائل منقطعة عن محيطها، معتمدة على قوى العمل الأجنبية، تقوم بتحجيم اللغة العربية من أجوائها وأجيالها بشكل مستمر، فتغدو جزءًا من العولمة الغربية الحديثة، في أشكالِها الخارجية المبهرة وغياب مضامينها الثقافية والفكرية العميقة، وهذا جانب مهم يعرقل الديمقراطية السياسية للتجار وبضرورة تغلغلهم في الحياة الشعبية.
وإذا كانت السياسة هي قمة مواقف الإنسان وحضوره في الحياة، فإن السياسةَ ضئيلةٌ في هذه المضارب.
إن التاجر العادي الكبير عادة هو كائن غير سياسي صريح في ظل تاريخ الشمولية السابق. وكل وجوده يتركزُ في رأس المال وتناميه، وهو رأسُ مالٍ منقطع عن جذوره وصلاته الاجتماعية، متوحدٌ في الفواتير ونتائجها، ومجردُ كمٍ نقدي يجب أن يتنامى بشكل مستمر، وربحه هو وجوده ووطنه.
ومن هنا فإن التاجر الكبير السياسي نادر الوجود، وإذا ظهر فهو مع السائد، رغم انه يفهم السائد بطريقته الخاصة، وبما ينمي التجارة الخاصة.
ومن هنا وجدَ التجارُ أنفسَهم في غربةٍ عن التحولات السياسية التي جرتْ مؤخراً وصعدت مجالس منتخبة من تيارات دينية ومن عامة وتجار صغار لا تعرف الاقتصاد. وكان هذا شيئاً غريباً، لكنه نتاجُ تاريخِ الغياب عن السياسة وعن الثقافة.
وفي هذا الوضع السياسي وجدت (طبقة) التجار نفسها أمام واقعٍ مؤلمٍ بالنسبة إليها، بل ظهرتْ كطبقةٍ غريبة منفية من الواقع السياسي الشعبي خاصة، ووجدتْ الوزارات تفرضُ التغييرات من مواقعِها السياسية غير مراعية لأوضاع التجار، في حين أنها تتوجه لتخفيف التناقضات الاجتماعية، لكن بحيث يتحمل التاجر كُلفةَ التخفيف و(الإصلاح)!
وأدى صمتُ التاجرِ وانعزاله إلى غياب أي أدوات تأثير وضغط على هذه الإجراءات، وإذا كان قد ربح من صمتهِ فإنه الآن يخسر من ذلك الصمت الطويل، ولعدم تكوين جماعات الضغط الخاصة به، وما كان مفيداً صار مضراً، فطلع على الناس وهو في حيرة، وتقيمُ الفئاتُ التجارية الدنيا تحركاتٍ واحتجاحات لا يهتم بها أحد، وغير مرتبطةٍ بجمعيات وتيارات ذات شأن في المجتمع رغم قدراتها المالية الكبيرة، ولعدم تشكيل كوادر مدافعة عن عالم التجارة الخاصة وحرية السوق رغم الأهمية الكبيرة لهما، وإذا دخل بعض هؤلاء عالم السياسة فهو من الباب الحكومي كمجلس الشورى.
وعموماً فإن الضعف السياسي للقطاعات الخاصة التجارية والصناعية والمالية هو ظاهرةٌ عامةٌ في دول الشرق، فهي تخلت بنفسها عن السياسة في زمن الشموليات الحارقة، وتوجستْ من تصاعد قوى الدول، وغرقتْ في عالم المال المعزول، بحيث إن أي شيخ دين في القرى لديه اتباع أكثر من كلِ مؤسساتِها الاقتصادية، كما أن ثقافتها الليبرالية تلبستْ بالدين المحافظ، وبالقومية الشمولية، ولهذا فإن عودةَ التاجر للسياسة الشعبية المؤثرة، تحتاجُ إلى الكثيرِ من التحولاتِ والإصلاحات في بُنى الاقتصاد وعالم المال وعلاقاته بالسياسة والثقافة.
صحيفة اخبار الخليج
17 مايو 2010