في الحياة أشياء تزول وأخرى تبقى. بعض الناس، الزعماء منهم خاصة يتصرفون كأنهم باقون للأبد، بعضهم يظن أن عمره أو حياته الشخصية هي بامتداد تاريخ الوطن الذي يحكمه، لذلك تراه يمحي من التاريخ الصفحات والمراحل التي لا تتسق وسيرته، وبعيد تركيب هذا التاريخ بما ينسجم ورؤاه.
لكن لحسن الحظ أن «أعمار الطغاة قصار» كما يقول الجواهري الكبير، لأنه رغم هذا العدد الكبير من الزعماء والملوك والقادة الذين مروا عبر التاريخ، فإن التاريخ لا يذكر بالمجد إلا أولئك الذين صنعوا مجداً لشعوبهم وجعلوا لبلدانهم مكاناً تحت الشمس.
ليس الطغاة وحدهم من يزول، يزول الزائف من الفنون والتقليعات والتهويمات التي لا تقدم شهادة صادقة عن عصرها، ولا عن قلق الإنسان وأسئلته، بدليل إن تاريخ الفن إنما يحتفظ بتلك الأعمال التي طبعت الأزمان التي أبدعت فيها ببصماتها أو قل أن هذه الأزمان انعكست فيها.
رغم ذلك فإن الفلاسفة يجادلون في أن الظواهر لا تزول، إنما تتحول إلى أشكال أخرى، ويقدم دعاة هذا الرأي البراهين التي تبدو قاطعة في توكيدها على صواب هذا الرأي، ومنهم من يرى أن الزوال مجرد اختفاء مؤقت للظواهر سرعان ما ينتهي بعودتها من جديد، ويضربون مثلاً بذلك إننا نتحدث عن «زوال» الشمس. فيما نحن نعلم أن الشمس خالدة لا تزول، وهي إذ تحتجب فإنما لتعود ساطعة في صبيحة اليوم التالي.
ومهما كان الأمر فإن الظواهر والأحداث المهمة حتى لو زالت فإنها تترك آثارها، وليس أدل على ذلك من الآثار التي تكتشف من بقايا الحضارات القديمة التي سادت ثم بادت، ومن أمثلة ذلك هذا الحضور المدهش لأهرامات الفراعنة توكيداً على أن التاريخ يتجول بيننا في حاضرنا وفي مستقبلنا.
ومثل هؤلاء يرى الدارسون لعلم الدلالات إن الموضات القديمة في الملبس وفي تسريحة الشعر وفي الرقص حتى لو غابت فإنها سرعان ما تعود وأحياناً بذات التفاصيل، بدليل أننا نشهد الآن عودة لموضة الثلاثينات في الملابس، فيما كنا نعتقد قبل سنوات إن مثل هذه الموضة قد زالت وإلى الأبد.
وأحب الناس إلى القلب والنفس أولئك الذين تكون المزاج مسحة الحزن حالة عابرة تنتابهم حين تصدم حاستهم المرهفة بما في الحياة من منغصات، لكنهم سرعان ما يعودون إلى ألقهم الجميل، فيغمرونك بالسعادة التي ألفت!