المنشور

التعددية في الأسرة الواحدة.. عبدالقدوس نموذجا

من الشائع في مجتمعاتنا العربية ان تجد عائلات بأكملها تنتمي الى تيار سياسي أو حركي واحد، وهذه الظاهرة برزت بوجه خاص في عصر المد القومي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فقد كان مألوفا حينذاك ان تجد الاب وهو لم يزل في مقتبل الثلاثينيات من عمره وحيث كان الزواج عادة ما يتم مبكرا حينذاك وتجد في الوقت نفسه أبناءه وهم لم يزالوا على مقاعد الدراسة الاعدادية أو الثانوية يقتدون بملة آبائهم السياسية، وحدث ذلك أيضا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات عند صعود المد اليساري بشقيه الجديد والقديم.
ثم جاءت القفزة الكبرى في شيوع هذه الظاهرة اثر صعود تيار الاسلام السياسي أواخر السبعينيات حتى بلغت هذه الظاهرة أوجها منذ أواسط الثمانينيات حتى بات من المألوف ان تجد أفراد عائلات بأكملها، أجدادا وآباء وأبناء وأحفادا، يوالون تيار الاسلام السياسي، سواء من خلال الانضمام الحركي إلى بعض فصائله من قبل بعض أفراد الاسرة الواحدة الى هذا التيار أم بالموالاة والتأييد من قبل أفراد الاسرة ذاتها الآخرين لهذا الفصيل الاسلامي أو ذاك.
واذا كانت الخلافات والصراعات بين التيارات السياسية المختلفة في المجتمعات العربية انعكست سلبا على العائلات التي توزع أفرادها بين أكثر من تيار فكري أو حركي فإننا لم نعدم ثمة ظاهرة جميلة تسود حياتنا الاجتماعية كما نجدها في عدد غير قليل من العائلات العربية التي يتوزع انتماء أفرادها على تيارات أو أحزاب مختلفة، لكنهم لم يجعلوا هذا التباين في الانتماءات السياسية والفكرية بينهم سببا للشقاق والخلافات المستعرة المدمرة، وبخاصة اذا ما كان المختلفون هم أشقاء أو شقيقات في الاسرة الواحدة، أو آباء وأبناء، بل نجدهم متحابين متوادين يختلفون في كل شيء في السياسة والفكر لكنهم يتفقون غالبا حول شئون البيت ومحبتهم المشتركة تجاه بعضهم بعضا ويديرون خلافاتهم أو اختلافاتهم، سواء في الشئون السياسية أم في الشئون البيتية والاسرية بطريقة حضارية عقلانية يصح ان نطلق عليها التعددية التي يظللها التسامح والتواد الاسري وتقديس صلة الرحم الواحدة التي أقرتها وأمرت بها شريعتنا السمحاء.
وليس غريبا ان نجد ما يجسد رمزيا هذه الروح من المحبة والتعايش المشترك بين أفراد الاسرة الواحدة رؤية شقيقين احدهما ملتح والآخر من دون لحية، أو شقيقتين او حتى صديقتين احداهما محجبة والاخرى من دون حجاب، بغض النظر هنا عما اذا كانت الاسرة تستهويها السياسة ام لا تستهويها. ولربما وجدنا الزوج غير ملتح لكونه ينتمي الى جيل المد القومي او اليساري، بصرف النظر عما اذا كان مسيسا أو غير مسيس، والزوجة محجبة ان اقتناعا بالحجاب وان تكيفا مع أفراد عائلتها الممتدة أو مع مجتمعها المحلي الذي تطغى عليه ظاهرة ارتداء الحجاب بين نسائه وفتياته.
ومثل هذه الظاهرة الحضارية، اعني ظاهرة التعددية الثقافية او السياسية في الاسرة الواحدة بروح متسامحة ومتحابة هي ظاهرة لكم نتوق إلى أن تعمم وتسود ليس في كل العائلات العربية التي يتوزع أفرادها بين عدة انتماءات فكرية وحزبية فحسب بل ان تكون نموذجا يقتدى به في حياتنا السياسية والاجتماعية التي يطغى طابع الصراعات العدائية المدمرة في العلاقات بين اطرافها حتى ما بين اجنحة التيار السياسي الواحد سواء أكان اسلاميا ام قوميا ام يساريا!
وفي هذا السياق لطالما بهرني نموذج مصري من نماذج الوفاء وعدم العقوق للوالدين رغم اختلاف ثقافته التي أضحى عليها عن ثقافتهما، هذا النموذج يجسده على نحو رائع الاستاذ محمد إحسان عبدالقدوس ابن المبدع والروائى والكاتب الشهير الراحل إحسان عبدالقدوس حفيد الشخصية النسائية التاريخية المعروفة فاطمة اليوسف مؤسسة مجلة “روز اليوسف”، وواحدة من رموز تحرر المرأة المصرية خلال النصف الاول من القرن العشرين. فمع ان الابن انتمى الى التيار الاسلامي الا ان ذلك لم يكن سببا لأن يسيء إلى والده المعروف بثقافته الليبرالية المتحررة ورواياته التي وظفت السينما العديد منها في أفلام لم تخل من مشاهد ساخنة ولا ان يسيء الى جدته المعروفة بتحررها.
لقد كان محمد إحسان عبدالقدوس منذ انتمائه الى التيار الاسلامي ليس ابنا بارا وفيا لأبيه فحسب، بل مدافعا صلدا عن كتاباته الروائية وغير الروائية على السواء كتلك التي صدرت في طبعات محرفة أو مبتورة بعد رحيل والده.. وهو لم يتخلف عن أي احتفالية دُعي إليها ــ مهما يكن نوعها ــ تتعلق بالمبدع المرحوم أبيه. وكان فخورا دائما بأبيه وبجدته فاطمة اليوسف وهذا ما عبر عنه في الاحتفالية الأخيرة التي أقامتها مؤسسة “روز اليوسف” في يناير الماضي وحضرها حشد من الفنانين والممثلات والصحفيين الذين أشادوا جميعا بدوره التنويري ودفاعه عن حرية انتماء الفرد الى أي ثقافة تستهويه بمناسبة مرور 20 عاما على رحيل ابيه. وكان قد حضرها حشد من الفنانين والفنانات السينمائيات والمبدعين الروائيين والمثقفين والساسة الذين أشادوا جميعا بدور إحسان عبدالقدوس التنويري ودفاعه المبدئي المستميت الذي لا يكل عن حرية الفرد في اختيار ثقافته وانتمائه الفكري الذي يؤمن به.
وفي هذا الصدد ضرب الدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونية مثلا بدفاع عبدالقدوس عن اليساريين في السبعينيات ورفضه التنكيل بهم على الرغم مما دفعه عبدالقدوس من تضحيات ضريبة لتمسكه بهذا الموقف المبدئي الذي يؤمن به، في حين أشاد رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف بدوره في محاربة الفساد.
فكم نحن في حياتنا السياسية بحاجة الى مثل هذا النموذج الاسلامي العقلاني المنفتح الذي يجسده محمد عبدالقدوس!

صحيفة اخبار الخليج
16 مايو 2010