نظراً للصراعات الدائمة بين البشر، قوى اجتماعية أهلية أو اقتحامات أجنبية وسيطرات من قبائل وشعوب على قبائل وشعوب أخرى، عاش الناس بين التعددية وبين الهيمنة الطبقية والفردية الكاسحة.
ان التعددية عموماً جزء من اختلاف المعاش والمواقع الاقتصادية والاجتماعية، ومن تعدد الأجناس والأقوام، والشمولية الحاكمةُ فيها جزء من التسلط المستمر.
إن هذه الثنائية الصراعية انعكست في الأديان، فالأديان تبدأ عادة بالوحدانية، وبصورة الإله الواحدة، ثم تغدو غير وحدانية، وتظهر مذاهب متعددةٌ في كل دين، تواصل عمليات الصراع الاجتماعية والسياسية التي لا تتوقف، لأن الناس لا يصلون إلى خلاصة أخيرة في تاريخهم أو إلى نظام متكامل أخير!
وليس الأمر راجعاً للنزق أو للبدع بل للصراع الذي لا يتوقف.
وهذا يجري دائماً في الأفكار الدينية وغير الدينية التي تلتصق بأجهزة الحكم خاصة، لأن الأفكار والأديان التي لا تلتصق بصراعات الحكم وتقسيم الثروات والتكالب عليها لا تصاب بمثل ذلك.
في البدء نجد صور الألوهية الواحدية أو الفكرة (المستقيمة) والفكرة النهائية، ثم تظهر التعدديات، وغالباً ما ينعكس الصراع الاجتماعي السلمي في أشكالٍ سلمية، والصراع الاجتماعي الدموي في أفكار تمزيقية ومذاهب عنفية تتصاحب مع الانتفاضات والحروب.
تتطابق السلطاتُ الدكتاتورية والدين تطابقاً شديداً كلما كانت المجموعات الحاكمة لا تتيح للآخرين فرصة التنفس.
حين يغدو الحاكم فرعوناً يعبر ذلك عن تحول شخصيته إلى فرد مهيمن على الملايين، التي تعمل من أجلِ شخصه. وهذا ما يجعله إلهاً.
حين تخف شخصية الحاكم ويغدو رسولاً شعبياً تغدو صور الإلوهية مشاركةً للناس، وتخترق الغيب وتتحدث مع البشر، وتتشكل ديمقراطية صغيرة في ظل غياب سلطات قمعية شاملة وفي ظل ديمقراطية الرسول مع جمهوره.
ومع انفصال السلطات الدينية السماوية (فيما يعرف بالأديان السماوية) عن الجمهور الشعبي، تتعدد الصور عن الألوهية تعدداً مساوياً لحركات الصراع والقوى الاجتماعية وطموحات القيادات المختلفة المضادة للرمز الإلهي الرسمي المعتمد في النظام الاجتماعي العام، وبسبب التخاذل كذلك عن الدول الشعبية العادلة المفترضة ونموذج المساواة المتخيل.
تقوم الحركات المعارضة باختراق الصور الرسمية للإلوهية المعتمدة وتطرح صوراً أخرى.
ان الصور الألوهيةَ المنفصلة عن الجمهور والنائية عن محنهم وعذابهم ومطالبهم في العدالة، تجابه بصور أخرى مضادة، وهي تدخل في الفراغ التاريخي بسبب عدم وجود مضمون ثوري يغذي تلك الصور بالحراك الشعبي العقلاني بعد الحقب الأولى.
كمثل الصوفية في الإسلام التي أنشأت صوراً تجمع بين أقصى الديمقراطية وأقصى الدكتاتورية. فالقطب يندمج مع صورة الإله، في تحد للديانة الرسمية، وهو لا يتحدى الديانة حقيقة بل يقوم بعملية ديمقراطية فيها وبتحدي السلطة ونموذج أمير المؤمنين المتعالي على المؤمنين، ويجعل صورة الإله شعبية وتندمج مع الناس العاديين فيتوحد معها!
لكن ذلك يعبر عن هرطقة بالنسبة إلى الديانة الرسمية، كما أنه يحول نفسه إلى دكتاتور مهيمن على البشر بقوله الغامض ذاك! وكلما زاد الغموض في الصور الدينية كان حجم الدكتاتورية أكبر، فبرنامج تغيير الحياة وخدمة الشعب يتوارى عبر المصطلحات الدينية الغامضة.
وبالصوفية وصلت الأديان في القرون الوسطى إلى مرحلة خانقة، لولا ظهور الرأسمالي الحديث في أوروبا. ولثالث مرة بعد اليونان والعرب تظهر ظروف مطورة للتجارة بشكل واسع، وهنا تعانقت مع الصناعة والعلوم، ووصل الرأسمالي الغربي إلى مرحلة يبعد فيها الدين عن السياسة لأول مرة في التاريخ البشري.
وأسباب ذلك تعود إلى ظهور المصنع والعمال. والمصنع مثّل ذروة تطور الإنتاج وتداخله مع العلوم. كما أوجد الرأسمالي طبقة جديدة مرتبطة بإنتاجه وأجوره. صحيح انه استغلها ببشاعة ولكنه أوجد طبقة قادرة على التصويت من أجله في الانتخابات، وأن تنفصل عن هيمنة رجال الدين. لم يعد الرأسمالي هنا بحاجة إلى حكم الدين السياسي، نظراً لأهمية توحيد الناس في البلد الواحد بعيداً عن الطوائف، ولضرورة تصعيد العلوم الطبيعية ومنع القيود حولها لأنها تغذي إنتاجه وتكيف عماله معه، وتحقق ازدهاراً اقتصادياً مفيداً لتطوره وتطور المجتمع وتحوله إلى هيمنة عالمية!
لكنه من جهة أخرى بحاجة إلى الدين كمانعة صواعق اجتماعية ضرورية، فهو كذلك بحاجة إلى سلطة غيبية بشرط ألا تتدخل في عمله.
احتاجت الرأسمالية الغربيةُ إلى العقلانية العلمية الطبيعية الواسعة والاجتماعية المحدودة، بسبب تحولها لسيادة عالمية تحتكرُ المواد الطبيعيةَ التي هي بحاجة إلى درس عميق متواصل، وإلى علوم اجتماعية محدودة وإلى الدين من أجل استمرار الشعوب المستعمرة والمستعمرة في ثقافتها القديمة الدينية، مع بعض التطور في ظل هذا الاقتصاد المزودج. ويتم تغيير هذه الثقافة كلما احتاج الإنتاج في هذه البلدان إلى تقنيات وقوى عاملة أكثر تطوراً.
ارتبطت العقلانية ثم العَلمانية بعمليات تطور هائلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، عبر إنتاج أوسع وأسواق أكبر، ولتطور في مختلف جوانب الحياة.
صحيفة اخبار الخليج
16 مايو 2010