مصر بدأت تستيقظ، و(بالطو) العسكريين الثقيل المليء بالرصاص والامتيازات يثقل قامة مصر الفقراء والطبقة المتوسطة والفلاحين، التي كادت ان تغرق في مياه النيل وفي مستنقعات الفقر والفساد!
لقد ظهر مثقفون غير مرتبطين بدول تدفع الرشا السياسية، وتشكلت طبقة وسطى واسعة خاصة في التصنيع الخاص، وأصبح القطاع العام البيروقراطي حجر عثرة في تجاوز هذا الاقتصاد الذي هو ليس رأسماليا حرا ولا اشتراكيا، ولا هو مدني ولا هو عسكري، ولا هو غربي تحديثي ولا شرقي شيوعي!
والبرلمان عاجز عن مراقبته وعن تدقيق حسابات هذا القطاع العام الضائعة، فساحت أموال المواطنين في الجيوب الخاصة، ونفقت المشروعات العامة، وغدت المدينة ريفا متخلفا.
ان النقطة المركزية في الحراك المصري الشعبي الديمقراطي المعارض الآن نقطة سياسية ساخنة، وهي القيام بتعديلات جوهرية في الدستور، تلغي المواد الشمولية التي تجعل من الاستحالة حدوث منافسة حقيقية بين المترشحين للرئاسة.
والرئيس في دول الشرق هو الحاكم الأبدي!
لقد ظهرت طبقة من رجال ونساء الأعمال اكتسبت ثقافة ديمقراطية حقيقية، وتريد ان تكون مصر قطعة من الغرب الديمقراطي، وتراثها التنويري الديمقراطي خلال مائة سنة يؤهلها لذلك.
ان القوى الشمولية التي ظهرت قبيل الحرب العالمية الثانية مجسدة في العسكريين القوميين والاخوان المسلمين والماركسيين غير الديمقراطيين، هذه القوى استنزفت مصر وأدت دورها في تشكيل قطاع عام كبير، واحداث تحولات اجتماعية واقتصادية مهمة، وكان اتجاهها باتجاه الشرق الشمولي والمتخلف غير الحاسم في العبور نحو الحداثة.
لقد ظهر التقاطع حادا في تلك الفترة المفصلية من تاريخ مصر، فحزب الوفد يريد ان يتجه بمصر نحو الغرب، ونحو الحداثة والديمقراطية والعلمانية، لكن القوى النخبوية الشمولية كانت تريد التوجه لتقليد الأنظمة الشرقية الاستبدادية المؤثرة وقتذاك.
ولعبت مشاعر العداء للاستعمار وتآمر الدول الغربية الكبرى لمساعدة الحركة الصهيونية وفساد الملكية وعدم عمق الديمقراطية المحلية، أدوارها في صعود النموذج الشمولي غير الديمقراطي وغير الليبرالي.
وأدى تصاعد هذا النموذج الشمولي دوره القومي كذلك عبر انتشاره، وعبر تكوين حركة تحرر عربي شمولية محافظة، فقدت حتى زخمها المحدود هذا.
ومنذ ان بدأت الاصلاحات في النظام العسكري المصري تصاعدت موجة الليبرالية الحداثية مجددا، واشتغلت ماكينة كبيرة نهضوية علاها غبار البيروقراطية والصدأ الحديدي للأحكام العرفية، فراحت تنفض هذه الطبقة الصديدية الخانقة، وتصاعدت أصوات العودة للمسار التحديثي الديمقراطي المقبور من قبل الضباط الأحرار والعبيد، وبدأت موجة من الوعي العقلاني تنتشر في الأدب والصحافة، وتم اكتشاف سراب الأنظمة الدكتاتورية و(الاشتراكية) والدينية، وعلى مدى عقد كان الأدب محور هذا الإيقاظ الديمقراطي المبكر أو المتأخر، حتى سلم الموجة للقوى السياسية الجديدة الطازجة قليلة الخبرة السياسية ومحدودة الجذور للأسف.
ان استعادة حلقة الديمقراطية المضروبة بمطارق عسكريي الخمسينيات وما بعدها، ليس متكاملا حتى هذه اللحظة، فقوى الملكية الخاصة الانتاجية الحرة لا تستطيع مواجهة القطاع العام الواسع، البيروقراطي العسكري المهيمن، وآلياته السياسية القوية المنتشرة حتى في القرى والنجوع، والقوى العمالية نائمة في العسل الأسود.
ان اللوحة الطبقية غير المتوازنة بين البيروقراطية وقوى الاقطاع الحكومية والرأسمالية التابعة لها والفاسدة، تقود إلى لوحات سياسية قاتمة، عبر انتشار الدينيين الطائفيين المحافظين غير الوطنيين، وهم النسخة الشعبية التي بقيت من مطرقة الشموليين الرافضين للحداثة الديمقراطية بمعايير الغرب، والمصرين على المشي في الطريق نفسه الذي قادنا إلى الكثير من الكوارث والتخلف.
ان جسم الوفد الذي ذاب وجسم الاخوان الذي صعد، مؤشران على تدهور وعي الحرية والديمقراطية والعلمانية لدى اوساط الشعب البسيطة المخدوعة وبالتالي فإن أي انتخابات حرة حقيقية في ظل هذا المستوى من الوعي الشعبي المحدودة تقود إلى نتائج ليست في صالح نمو الديمقراطية التحديثية.
فمن الملاحظ ان القوى الديمقراطية الجديدة نخبوية ومعتمدة على التأثيرات والمساعدات الغربية الدبلوماسية، ومن دون ان تتحد وتكون جبهة حداثية، وتوجد لها قواعد شعبية واسعة، فإن امكانياتها في الفوز تبقى ضئيلة.
لابد من النضال الصبور كذلك، ومواجهة وتعرية الفساد ونشر التنوير والوعي الديمقراطي حتى لا تسقط مصر مرة أخرى في ايدي الشموليين باسم الدين هذه المرة أو بأسم الدولة الجامعة المانعة أو بأسم الجيش المنقذ مرة أخرى!
ان نصف قرن من التجريب ونصف قرن من تجاوز أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وطه حسين، وكل ذلك التراكم العقلاني، والوصول الآن إلى جمهورية الدراويش والفساد، يوضح خطورة القفز على الديمقراطية وخطورة التجريب العسكري الديني في لحم الشعب.
أخبار الخليج 14 مايو 2010