تعرضتْ نظريةُ التطور لداروين لهجومٍ عربي إعلامي في الآونة الأخيرة من قبل بعض علماء الدين بسببِ نشر أبحاث في مجلة ساينس الأمريكية عن اكتشافِ هيكلٍ عظمي للإنسانِ يَجعلُ عمرَ البشرية يتوغلُ أكثر من ثلاثة ملايين سنة فيصل حسب اجتهادهم إلى 4،4 ملايين سنة وهي عمرُ (احفورة أردي)، وأكد الاكتشافُ ان الإنسان الحالي (ربما) تطور من سلفٍ آخر ليس هو القرد والشمبانزي بل هو أقرب لصورة الإنسان الحالي، فهو اكتشافٌ يضيفُ مليوناً آخر من عمر جذور الإنسان القديمة المفترضة كما يزحزحهُ عن موقعهِ المقارب للقرود!.
لكن الأصوات الحادة في رفض العلوم حولت وأدلجت الاكتشاف من أجل الإطاحة بهذه النظرية التي أكدتها أدلةٌ كثيرة، والتي وضعتْ التاريخَ الإنساني على أساسٍ علمي فيما يتعلق بنشوء أشكال الحياة من أساسٍ واحد، أما مسألةُ الأدلةِ القاطعةِ في تكوين الإنسان وأصله التام المنجز فهذا لم يَحدثْ ولم يُطرح.
فهناك رؤيةٌ عامة عن تكون الأحياء وقد قُدمت عليها أدلةٌ وفيرة، وفي زمن داروين كانت الأدلة أقل وتتعلق بالأنواع العامة.
(يقول العلماءُ ان التطورَ قد خلفَ وراءه العديدَ من السجلات التي تروي تاريخَ الأنواع المختلفة وزمن نشوئها. الأحافير بمجموعها مع التشريح المقارن للنباتات والحيوانات الموجودة حالياً، تشكلُ سجلاً تشريحياً ومورفولوجياً. وبالمقارنة التشريحية والشكلية بين الأنواع الحالية والأنواع المنقرضة يمكن لعلماء المستحاثات أن يقوموا بمعرفة الارتباطات والأصول المشتركة بين هذه الأنواع. يقوم بعض المستحاثات المهمة بإثبات الصلة بين أنواع منقرضة وأنواع موجودة حالياً عن طريق ما يدعى أنواع “انتقالية”، مثال هذه الأنواع الانتقالية أرخأيوبتركس الذي أثبت العلاقة بين الديناصورات والطيور) ، موسوعة ويكيبيديا.
وتعطي الموسوعةُ العديدَ من هذه الأدلة الملموسة عن كيفيةِ نمو الأحياء وتداخلها وتطورها، وتضيف:
(جميع هذه الإثباتات من علم الإحاثة، التشريح، علم الوراثة، والجغرافيا، إضافة لمعلومات أخرى حول تاريخ الأرض قامَ العلماءُ بربطِها سوية ضمن إطار تقدم نظرية التطور من خلالها وتجعلها نظريةً علميةً متماسكة. فمثلاً علم المناخ الإحاثي سpaleoclimatology يشيرُ إلى العصر الجليدي الدوري الذي كان فيه مناخ الأرض أكثر برودةً، مما أدى لنشوءِ وانتشارِ أنواعٍ حية قادرةٍ على تحملِ البرد القارس وأهم هذه الأنواع الماموث( woolly mammoth) السابق.
لكن هذه الأدلة لم تكن حاسمة كلياً حتى جاءتْ علومُ الأحياءِ لتقدمَ أدلةً غير قابلة للنقض،(ففي عام 1953 توصل جيمس واطسون وزميله فرانسيس كريك الى اكتشافِ الحمض النووي الذي يُثبتُ صحةَ أغلب أفكار داروين، فقد عثرا على تركيبةِ الحمضِ النووي DNA الذي يبينُ الصفات الوراثية للكائن الحي. وقد حصلَ الباحثان بفضل هذا الاكتشاف على جائزة نوبل للطب عام 1962 . ويرى إدوارد أوسبورن ويلسون، وهو أحدُ أشهر علماء التطور البيولوجي المعاصرين أن لعلم الأحياء الحديث علامتين بارزتين، الأولى في عام 1859 عندما نُشر كتاب أصل الأنواع، والثانية في عام 1953 عندما نُشرت تركيبة الحمض النووي.)، (موقع: علوم وتكنولوجيا).
لقد غدتْ الشفرة السرية الغامضة للكائنات الحية مكتشفة فحدثت بعدها ثورات تقنية في الزراعة والطب والفضاء وغيرها من المجالات! أي أن الصناعيين والمزارعين في الغرب قدموا سلعاً متطورة في عيش الإنسان وأكله ورقيه.
إن الضجيجَ المُضاد الذي يصدرُ في العالم العربي غير مفهوم وغير مفيد معاً، وفي هذا الضجيج يتم حشر الأديان في سياقات العلوم واكتشافاتها، وتتصاعدُ دعواتٌ حماسية للصراع معها!
لابد لنا من قراءة هذا الضجيج وجذوره وأهدافه، فجماعاتُ قراءات النصوص الدينية عبر التسطيح يقومون بحشرِها في الصراع مع النظريات العلمية، ويوصلون إنجازات هذه العلوم واكتشافاتها بأشكالٍ كاريكاتيرية تصعّدُ في المؤمنين نزعات التطرفِ والهجوم على العلماء والاكتشافات ومقاومة الحداثة والديمقراطية وإعطاء الجماهير العاملة حقوقها، وهي أدواتهم للرقي والتحرر وتطوير حضارتهم الإسلامية!
يقتبسون من كل هذه الثورة العلمية والتقنية الهائلة خيوطاً هزيلة فيقولون: (إنهم يهدمون الأديان. إنهم يصورون الإنسان بأنه من أصل القرود!) (الحضارة الغربية الكافرة تريد القضاء على دينكم يا مسلمين!).
مثلما فعلَ شيخٌ يمني(أجهز) على نظرية التطور ومنعَ قوانينَ تحدّ من الزواج بالفتيات الصغيرات القاصرات، معتبراً ذلك كله دفاعاً عن الإسلام!
هناك مسارٌ علمي صناعي مفجر للتحولات، ومن أهمها صناعة الطب وعلاج الإنسان فلولا فهم جسد الإنسان وعلاقاته بالمخلوقات الأخرى ما كان من الممكن أن تظهر وتتطور علوم الطب، ولولا دراسة الجينات الموحدة عددياً حتى بين الإنسان والفأر، ما ظهرتْ علومُ العلاج!
إن مسار الأديان وكتبها المقدسة مسار مختلف عن مسارات العلوم الطبيعية، فتلك لها أبحاثها وعلماؤها المختصون، وهم يدرسونها باستقلال عن إنجازات وتقلبات وافتراضات العلوم الطبيعية.
قام رجالُ الكنائس بالصراع ضد نظرية التطور وفي سنة 1925 توقفت معاهد ومدارس في الولايات المتحدة فيما يسمى بـ (قضية القرد!) فماذا استفادوا غير توقف التعليم؟
علينا أن نستثمر نظرية التطور وإنجازاتها في العلوم التطبيقية خاصة، فيما يكون للدين استقلاله ودوره. وحين يقوم شيخ الدين اليمني بتأجيج العداء للنظريات العلمية في وقت تتدهور زراعة الفلاح تتدهور ووضعه السياسي، فلا يعرف أسباب أمراض المنتجات الزراعية ولا مشاكل المواليد البشرية، والفتيات الصغيرات يمنعن من الدراسة، فمن يستفيد من كل هذا التخلف الذي يُربط زعماً بالإسلام؟
أخبار الخليج 13 مايو 2010