المنشور

ذاكرة سايغون ورائحتها

يحمل الانسان دائما قيمة وصورة معينة عن مدينة يقرأ عنها او بلد يبحر في تاريخه ويمتزج بعجينه السياسي والنضالي. تكون فيتنام البلد العظيم الذي هز العالم في خميسنيات العصر المنصرم وكنا نحن الجيل المتحمس لتلك الثورة وما انجزته من مشاريع كبرى من اهمها تركيع العملاق الامبريالي الامريكي بعد ان طرد قبله الاستعمار الفرنسي. كانت فيتنام لنا تجربة ثورية ووطنية متميزة ’ فقد استلهم منها شعوب شتى كثورة الجزائر وانغولا وموزمبيق وغانا والثورة الفلسطينية ’ فكلهم كانوا ينظرون لهذه البلاد على انها تجربة مهمة جعلت الشعوب تقتنع بأن اعتى القوى العالمية قابلة للهزيمة متى ما توفرت الارادة السياسية والقيادة المنظمة والقادرة على تحقيق النصر حتى اخر جولة من النزال. لقد قدم الفتيناميون من خلال تجربتهم النضالية والانسانية على ان طريق الانتصار امر ممكن شريطة ان لا تحدث تنازلات وتراجعات في برنامج الثورة. لتلك البلد حملت حقيبتي بقلب ينبض بالاضطراب والتساؤل كيف ستكون هذه البلاد؟ ومن بوابة كوالالمبور كان علينا ان نركب طائرتنا اولا نحو هوشي منه وبعض قضاء ثلاثة ايام وصلنا عبر الفضاء الى هانوي عاصمة جمهورية فيتنام الشعبية الاشتراكية حسب تسميتها الرسمية ولكن الحقيقة كانت مختلفة’ حيث يكتشف المرء تلك المتغيرات الاقتصادية والرؤية السياسية والشعارات الجديدة المرنة مع متغيرات العولمة. تبدو الدهشة الاولى من الفضاء فهناك احساس زجاجي يأتي عبر تلك النافذة الصغيرة ’ فتشعر بنبضك مختلفا اذ زيارة دولة كفيتنام ولاول مرة’ وقد كنت أتمنى زيارتها قبل ربع قرن’ يبدو الوضع مختلفاً. حركة المطار كانت تعكس حيوية المكان وزخم المسافرين ونظافة ودقة المطار وموظفيه لولا ذلك الموظف الذي اربكه جواز سفر من دولتين خليجيتين ’ اذ ارتبك في كيفية التعامل مع الفيزا التي رتبنا وضعها من ابوظبي.
ومع ذلك احالنا الى المسؤول للمراجعة ’ غير اننا لم نستمع الى ارتباكه وذهبنا الى موظف جوازات مجاور في تلك «الكونترات» الكثيرة في مطار هادئ ونظيف وواسع ’ فلم نجد الا سهولة في الاجراء مما جعلنا نكتشف بيروقراطية موظف لا غير. بعد الانتهاء السهل من الجمارك وجدت نفسي مع صاحبي نحجز سيارة للفندق كلفتنا سبعة دولارات. في بهو الانتركوننتال في مدينة هوشي منه ستجد هناك العالم الامريكي القديم قابعا في مدينة سايغون يجتر النوستالجيا والحنين القديم، فيما ان هناك اخرين جاؤوا من باريس لعلهم يشاطرون صديقهم اليانكي رائحة الهزائم والمواقف اللا إنسانية المرعبة لذلك الزمن.
كان علينا ان نسترق السمع للغة ولتلك الوجوه والملامح المختلفة عن دول الجوار’ ومراقبة تلك الكياسة والتهذيب من موظفي الاستقبال في قاعة الفندق الهادئة جدا كجزء من ثقافة الفيتناميين مع تلك الابتسامة الرقيقة’ والجاذبية المتميزة لنساء فيتنام ورجالهم’ الذين يهتمون بأوزانهم ونحافتهم فنتذكر كيف استطاع الفيتنامي يتحرك في الانفاق الضيقة تحت الارض في سنوات الحرب، فيما عجز الامريكي الضخم المرور من تلك الانفاق والخنادق. ظلت مفردات عجيبة سمعناها من صاحبنا الدليل فلم تتح لنا الايام القصيرة امتحانها عمليا’ حيث قال بأن الناس هنا لا يفضلون تسمية مدينة هوشي منه كبديل عن مدينتهم القديمة سايغون’ كما فعل أهالي بطرسبورغ الذين ازاحوا تسمية ليننغراد من ذاكرتهم’ يماثلهم اليوم اهالي سايغون’ الذين يرون في كارثة الحرب وتجربتها ليست الا وبالا على جيل قادم من ضمنهم جيل دليلنا الشاب’ الذي أمتعنا بنكاته ولطفه لولا تلك المفردات السياسية المسيئة والسلبية’ ولكنها في ذات الوقت عبرت عن اتساع مساحة التعبير السياسي في البلاد’ والذي ينتقل سياحيا مع حالة الى حالة جديدة اذ بدأ الفيتناميون عالم السياحة بشكل مبكر للغاية في العام 2002 ولكنهم استطاعوا في العام الفائت استقبال اكثر من اربعة ملايين سائح’ ما يؤكد على انها دولة تمتلك مواصفات الدخول الى النادي السياحي في دول شرق اسيا الاقدم بخطوات واسعة ولكن هادئة دون ارباك توازنها السياسي ونموها الاقتصادي.
لكل مدينة مشاكلها ومن اول مشاكل سايغون الازدحام العجيب والتلوث بتلك الدراجات النارية فلكل اثنين من سكان المدينة هناك دراجة نارية’ حيث تتحرك في المدينة خمسة ملايين دراجة نارية داخل مدينة عدد سكانها 8 ملايين يزداد عددهم من خارجها نهارا بمليونين ما يعني ان المدينة تستمع الى صخب عشرة ملايين انسان مع خمسة ملايين دراجة دفعة واحدة في جميع طرقاتها. من طبيعة اهالي سايغون ان يتحفوك بدعابة مفادها ان كنت تريد بصحبتك فتاة من سايغون فانك لابد وان تمتلك دراجة نارية فهي طريق الوصول الى قلب الفتاة.
كان واضحا منقبات راكبات الدراجة النارية من الفيتناميات’ اللاتي كن يغطين وجوههن واياديهن تحاشيا من حموة الشمس’ وسواء كانت هي التي تقود بمفردها وصديقتها او ان تكون هي مع صديقها تحتضن خصره’ فان المميز في المدينة ان الناس كانوا متسامحين مع بعضهم ولا تشهد عيناك الا بشرا يتحركون في طريقهم بعجالة بعد انتهاء العمل او اثناء الذهاب اليه. المدينة هادئة ليلا دون ان تفقد ملامحها الخاصة فهناك امكنة للطبقة الجديدة والمجتمع المخملي وهناك احياء مكتظة لابناء الكادحين ’ وهناك عالم الماركات والمقاهي العالمية الشهيرة ولكن دون الانبهار بالاضواء والنيون. في كل شوارع سايغون ايقاع خاص عليك ان تتحسسه في جولاتك وتقرأ كيف يعيش الناس يومهم ونهارهم وليلهم. ومثلما تغطي الاعلام الحمراء والنجمة الصفراء بعض الامكنة كمؤشر على وجود حياة الحزب’ فان بقية الصور والعبارات لا تخفي حقيقة ان غالبية سكان سايغون يحبونها ان تبقى دائما سايغون’ فالاسماء الرسمية لا تغير عندهم تلك الحقيقة التي ظلت متناقلة جيلا بعد جيل’ فالاوراق الرسمية تقول شيئا ونبض الشارع يعيش شيئا آخر في سايغون’ التي تبقي دائما روح الفيتناميين في منطقة الجنوب’ الذي شهد اقتتال الاخوة الاعداء عندما انقسم الناس بين الشمال والجنوب بعضهم مع اليانكي وبعضهم ضده من اجل تحرر فيتنام الجديدة’ التي تصارع وحدها بعد انهيار عالم المعسكرات والتكتلات’ من يزور هذه المدينة يكتشف عظمة دلتا نهر الميكونغ ويعيش حالة الزمن المنهار’ حيث لم تترك قنابل النابالم صورة جميلة في ذاكرة اهالي سايغون بل واهالي كل شعب فيتنام الطيب والصبور والحالم بعالم جديد ومختلف.
 
صحيفة الايام
9 مايو 2010