برأي فولتير أن دماغاً بشرياً بألمعية دماغ نيوتن، وعبقرية مثل عبقريته، لا يجود بها الدهر إلا مرة كل عشرة قرون مثلا، أما رجالات السياسة والفاتحون العسكريون وقادة الجيوش فإنهم موجودون في كل قرن وجيل، وهم في الغالب أشرار ومشاهير، وبالتالي فإن العظمة لا تكون إلا للفكر وللروح.
كتب فولتير «الرسائل الفلسفية»، وكان في الأربعين من عمره، حيث ابتدأ انخراطه الفعلي في الشأن الفلسفي، شعورا منه بأهمية خوض معركة التنوير في بلاده، فرنسا. وكانت الفلسفة بالنسبة له تعني النضال من أجل الحقيقة، وهي الوسيلة الأساسية لتحرير العقول من الأوهام والخزعبلات. في معركة انتهت، كما يعرف تاريخ الفكر والفلسفة العالميين، بانتصار التنوير، الذي فتح لفرنسا ولأوروبا كلها، آفاق التقدم.
المجد للعقل، هو وحده الذي يمكن أن ينتصر للحقيقة ويذود عنها، وليس لأولئك الذين يهيمنون على الناس عن طريق العنف والقوة المحضة، ثم يحولونهم إلى عبيد، لذا فإن الاحترام والتقدير يجب أن يتوجهان نحو من يسعى لاكتشاف أسرار الكون، لا إلى أولئك الذين يريدون تدمير العالم أو تخريبه.
لذا فإن المعركة التي خاضها فولتير ضد التعصب والجمود، كانت معركة من أجل انتصار النور والعلم، وتبديد الجهل، من خلال نقل أفكار فرانسيس بيكون وجون لوك وإسحاق نيوتن ونظام الجاذبية، وبقية الأفكار الفلسفية والعقلانية، ذلك أن من يربح المعركة الفكرية هو من يربح المعركة السياسية عندما تنضج ظروفها، وليس العكس.
العودة لتاريخ التنوير الأوروبي تحمل، في طياتها، مضموناً معاصراً يعنينا نحن معشر العرب والمسلمين، لا برغبة نسخها، فذلك أمر محال، لأن لكل مجتمع سياقه التاريخي والثقافي والحضاري الخاص به، وإنما للتذكير بأن للفكر النهضوي تراثاً في تاريخنا الحديث.
وعلى خلاف أوروبا، فإن مشروعنا النهضوي قد انتكس في أكثر مفاصله التاريخية أهمية وحساسية، مما جعلنا نراوح في دائرة مغلقة لا نقوى على كسرها بسبب حالة العجز والهوان التي نحن فيها، كأن الأمر يستدعي وجود مفكرين شجعان عظام بوزن رواد النهضة العرب الذين شقوا طرقاً جديدة وسلكوا دروباً غير مطروقة من قبل.
لكن مشروعهم انكسر في منتصف الطريق لأن الأمر آل، فيما بعد، إلى من لم يتشربوا بالروح العميقة لهذا المشروع، ممن يمكن أن يعيشوا مغازي العبارة المنسوبة إلى نيتشه، وفحواها «إن خدمة الحقيقة هي أقسى أنواع الخدمات».
صحيفة الايام
4 مايو 2010