المنشور

مات «المشاغب العمالي» فرحاً

في غمرة التجوال في عالم مسكون بين الفرح والحياة وعالم منهك من الحزن والموت، ترافقك الهواجس وتحملك الهموم لمشاهد الكون والانسان في مناطق مختلفة، ولكنك تبقى مسكونا في مكان ما من كيانك، هو الوطن مهما تجرعت مرارة سنواته، فالوطن يبقى خارطة اخرى من الروح، لهذا اظل بين الحين والاخر مشدودا للانترنت وللبريد الالكتروني فربما هناك زوبعة عاصفة مرت محاذية للجزيرة او خبر مؤلم يعيد لك ذاكرة الوقت. هكذا هبط عنيفا وقويا خبران متقاربان في فترة اسبوع واحد، موت ابنة الاخ يوسف محمد ملا جناحي، الشخصية المحورية الذي لعب دورا حيويا في مساعدتي بولادة كتابي الاخير «ترويكا المهن النبيلة في مملكة البحرين» وموت الرفيق عبدالجليل عمران «الحوري» الذي حمل من الحكايات العمالية والنضالية الكثير، فقد عاش كما يريد ومات كما يرغب ولكنه ظل بابتسسامته الخجولة في سنواته الاخيرة يذكرك بتلك الشخصية العنفوانية المتحمسة والعنيدة والصدامية، بل ويجتاز غضبه كل الممرات فلا يصغى لاحد حالما تركب «جنونه» الطبقي مسألة عمالية. عرفته طوال هذه السنوات عاطفيا بقوة وصامتا بحزن وباحثا عن سعادة لم تكتمل، فظل يجرجر نفسه في السنوات الاخيرة لكي يعيش حلم الانتصار والفرح مع كل احتفال مايو في سنوات الاصلاح، ويردد اغنياته وشعاراته القديمة التي لم تشخ في روحه. دون شك كان بو منير مشروعا تاريخيا للحركة العمالية، فقد كان في مقدمة كل الاضرابات العمالية بل وكان مشروعا للصدام والمواجهة حينما يتطلب ذلك هدوءا. اتذكره بما يحمل وما يكتم من اخفاقات السنوات الماضية كإنسان شاب، فأرى شيخوخته المبكرة بالامراض قبل ان يذهب الى العلاج خارجا. ألتقيه كلما سنح الوقت في مقر جمعية التقدمي في هذه المناسبة او تلك، فأشعر بأنه مازال حالما بمشروعه الثوري. ربما نحن البرجوازية الصغيرة عرضة للمتغيرات الابكر من طبقتنا العاملة، فمسافة الوعي والمعايشة تشكلان تلك التباينات بيننا كابناء طبقات مختلفة في الفكر والانتماء، ولكننا عندما نحاول ان ننسلخ عن طبقتنا نبقى مشدودين لها بلاوعي، فيما ظل بو منير منتشيا بالماضي الذي كان يحلم به. اتذكره في سنوات 68-69 عندما ضم حوضا كبيرا من مشاريع المقاولات في ميناء سلمان، كل المهن العمالية من لحامين ومفصلين وحدادة وغيرها، فانك في ذلك الرتل الواسع من العمال ستجده امامك يترنح ويتجول «بالتاتو» الوشم الذي حفره على زنده، وكان عبارة عن مطرقة ومنجل، وبما ان بومنير مولع باستفزاز رؤساء شركات انجليزية وامريكية، واقفين عند بوابة تلك الورش الكبيرة عند مداخل بوابات حديدية مجاورة للميناء، فان قادة شركات مثل ويبمي ودلونج وبراون رود، كان يغضبهم ذلك الشاب الاستفزازي البروليتاري الطباع، فكنا نسمعهم يرددون عندما يرونه قادما بوشمه وحمرته «اللعنة عليه.. لا نريد ان نرى وجهه» هكذا كانت تستثيرهم تلك الرسمة المنحوتة في زنده وكأنها عشيقته كبحار يسافر عبر المحيطات فيحمل في قلبه وصدره رسوما لصبية يحبها ولم تحبه، وطبقة احبها ولم تفهمه وزمن عاشه ولم يكمله الا في ساعاته الاخيرة من ذلك الفرح. ولم تكن تثير الانجليز رؤية تلك النقشة على زنده وانما حين يطل من بعيد فرحا في شتاء بلادنا الممطر لابسا «الشبكة» الروسية السوداء (قبعة روسية مصنوعة من الفرو يرتديها الروس بشكل عام ولكن النوع الذي كان يرتديه جليل قريبا لشبكات العمال الروس) وكأنه بطلا من ابطال رواية الام او احد العمال السعداء بيوم اضراب طويل في مصانع الدنيا الاممية التي احبها بقوة. كان علينا في ذلك الوقت ان نقيم حفلة ليلية في حوش بيتنا في الحورة، وكان على فرقة ليليز الجميلة يومذاك ان تجعل من فضاء الحورة المسائي كله مستيقظ، حيث جاء رجال الحي يستمعون ذلك الضجيج الشبابي فاوهمناهم انها مناسبة خطوبة، فيما كنا نحتفل بطريقتنا لكل مناسبة سرية منعنا البوليس من ممارستها. يومها كان الحوش رمليا والفضاء مفتوحا والفرقة تهز جذوع شجرة مكتنزة في ارض المحبة، فكانت رقصة «الكازاتشوك» الروسية تطرب جليل طربا فهي تذكره بمعنى الاغنية والرقصة حينما رافقت الروس في الحرب العالمية الثانية وهم يمطرون الالمان بفخرهم الكبير صواريخ الكاتيوشا. ظل الغبار في الذاكرة وظلت رقصات جليل الهستيرية منتشية فيما ظلت الكاتيوشا وكازتشوك وقبعة العمال الروس حلما جميلا لامثال جليل عمران وغيره من رعيل طبقتنا العاملة.
قصص كثيرة عشتها معه في السجن وفي الشارع وفي المحبة وريحها وفي الهدوء والغضب منه، في وقت كان لا يسعنا فيه الالتفات للصغائر. رحل كما يريد فقد اختار ان يموت فرحا في زمن الفرح العمالي، مات قبل ان ينهي فرحه في الاول من مايو القريب، فقد كان كل عام على موعد معه في مسيرة المنبر، فهل ستكون اعلامنا حمراء كقلبه وفي غيابه؟! اتذكره عندما كنا في مسيرة الاول من مايو قبل سنتين حينما قلت له «ان هذه اللحظة من المناسبة المزدانة بالحمرة هي مناسبتك وفرحك».

صحيفة الايام
4 مايو 2010