علقت في ذاكرتي صورة انسان طقوسي الملمح، صورة لم تبارحني حتى الآن، إذ بدا لي شخصية نمطية من قصص الخيال، صورته وشكله ومشيه نمطيًا كتلك الشخصيات الحكائية، مع شيء من الرهبة والخوف، فذبيح الله هو الاسم الذي تعامل به الناس الذين عرفوه في الجوار وفي الطرقات التي يمر عليها هذا الانسان الكوني الغريب والخارج من فوهة الارض المغبرة كملابسه المتربة المتسخة التي لم يلامسها الماء ولا لحيته الكثة الطويلة التي اعتدنا على شكلها لدى اولئك الاولياء الجالسين عند القبور، ولكن ذبيح الله برغم غترته المتسخة الرمادية الملتفة حول رأسه وكأنها عمامة شخصية متصوفة، وثوبه القصير ومشيته المتئدة وكأنه يمشي على ارض من الزجاج والقطن، كان يرتدي قبقابًا كتلك القباقيب الخشبية التي يرتديها اهل الشام في حماماتهم، وشاهدناها نحن في طفولتنا في حوش البيوت الشعبية وصبانها. هذا القبقاب هو ما كان يثير صوتًا من بعيد وكلما اقترب منك ارتفع وقعه، ومن ثم ايضا يخفت بالتدريج كايقاع منتظم مع مشيته الاسطورية. ما زاد رهبته في نفسي هو تلك الصورة المتجهمة دون التفاتة منه وكأنه يتحرك تحت عباءة الادعية والطلاسم، إذ بدت شفتاه تتحركان بهدوء يماثل الشمعة عند ملامسة الهواء لها.
كان ذبيح الله يمر من شرق العوضية في اتجاه الشارع والجدار الشمالي المحاذي لمقبرة البحارنة متجهًا نحو الكنيسة والمستشفى الامريكي والعكس احيانا، ثم يختفي مع تلك المسافة. واذا ما مر ذبيح الله من شوارعه فان هناك اهتزازا شعوريا يلامس الاطفال اما تحببًا او خوفًا من تلك الشخصية الغامضة والقصصية.
اما من اين جاء هذا المخلوق الغريب ولماذا تم تسميته بذبيح الله، فان الناس الذين سكنوا وعرفوا المنطقة وتلك المرحلة، فانهم اتفقوا على جهلهم تفاصيل حياته الشخصية، ولكنهم جميعهم يرددون الحكاية نفسها حول طبيعة امسه الغريب، اذا اتفقوا على ان ذبيح الله كان في قبر امه، فحينما توفيت كانت حاملًا به، وعندما دفنت خرج من رحمها من تحت التراب ووجدوه يلعب على القبر ويبكي «وكل ما رددوه هو» عبارة سبحان الله «ولهذا تداولت الناس اسمًا لا يعرفون من هو اول من اطلقه عليه» هذا الذبيح «الذي ولد في لحظة من لحظات الحياة اختفى ايضا دون علمنا، ولكن دون شك لابد وان يعرف احدنا حكايته واين توسد مخدة الموت، وفي لحظة من لحظات الوداع التاريخي لحكاية ذبيح الله، الخارج من تحت التراب والذاهب اليه، فقد عاش – يبدو لي – يتيمًا ومشردًا ووحيدًا، وعندما فطن للدنيا وسأل عن والده ووالدته قيل له انها توفيت منذ طفولتك، وربما صدمة الطفولة الميتمة والفقر والتشرد تسببت له بتلك العزلة والانطواء، فيومها لم يكن لدينا الا مستشفيات تسمياتها مخيفة ولا يحب احد الدخول اليها، فلا احد يود ان يدخل مستشفى للاعصاب والمجانين والاستهزاء «وكل حالة نفسية وعصبية تلصق بها هذه العبارة والصفة، مثلها مثل المستشفى البيطري وطبيبه الذي كان يسمونه طبيب الحمير ومستشفى الحمير، ومع تحسن وعينا وعلمنا صرنا نوظف لغتنا بشكل اكثر دقة وحضارية، اذ صرت اتقبل جلوسي مع « طبيب الحمير!» اليوم ونحن محاطون بامراض الخنازير والبقر!
لكم كنت يا ذبيح الله طفلنا الكبير الذي نستمتع بمشهدك كصغار ونستعذب صورتك المهيبة، فقامتك الطويلة التي زادها القبقاب طولا امتدت الى السماء معك، حتى رحلت تاركا لذاكرتي شكلك الخرافي بلحيتك التي ذكرني بها المفكرون والكتاب العظام، فأنا اول ما شاهدته في الدنيا بلحية مثيرة هي صورتك، وهي الاولى ولكنها صارت ليست الاخيرة، رغم مفردتها الفلسفية باسطوريتها لذلك الطفل الذي حفر قبر امه وخرج الى العالم، حتى عثر عليه الناس وهو يبكي جاهلًا هويته الانسانية في الحياة. بدأت لي قصة رمزية عظيمة لاستلاب هوية الانسان في الارض وتحت الارض وفوقها دون بداية او نهاية. كائنا من تكون، وكائنا من تبقى او ترحل، فعظمتك هي الباقية كانسان يا «ذبيح الله» الفقير والمعدم والمجهول بذلك الاسم الغريب!
صحيفة الايام
2 مايو 2010