كانت العقود الثلاثة الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية فترة عاصفة بالثورات المسلحة التي كان جلها مكرس لإنجاز مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني. ومع أن كثيراً من هذه الثورات المسلحة لم يكن ثورات شعبية بالمعنى الدقيق لمفهوم وتعريف الثورة، إلا أن استدراج أعداد غفيرة من السكان وانخراطهم، بعضهم بصورة مباشرة ومعظمهم بصورة غير مباشرة، في حركات التحرير الوطني، وبمستوى مشاركة أقل انخفاضاً في العمل المسلح المكرس لإطاحة أنظمة غير وطنية - نقول مع ذلك فقد ذهب تقليداً أن يطلق على هذه الحركات في غالبية الوسائط الإعلامية والأدب السياسي في ‘العالم الثالث’ بالثورات، رغم أن الدارج في أجهزة الميديا الغربية هو إطلاق مسمى التمرد المسلح على هذه الحركات. إنما الذي نقصده هاهنا هو الثورات والهبات الشعبية التي تندلع فجأة، ليس من غير مقدمات طبعاً، وتهب للانخراط فيها جموع الشعب الغاضبة سواء من حكم استعماري بغيض كما هو حال ثورة 1919 في مصر بقيادة الزعيم الوطني سعد زغلول ضد الاحتلال البريطاني لمصر والطبقة الفاسدة في الحكم، والثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، أو ضد نظام استغلال اجتماعي أو استبداد سياسي، كما هو على سبيل المثال حال الثورة الطلابية في فرنسا وبعض الدول الأوروبية في ستينات القرن الماضي ضد نظام الاستغلال الرأسمالي وهكذا… هذا النوع من الثورات والهبات الشعبية العارمة كاد أن يطويه النسيان بسبب شحتها، لولا أن ظهرت على سطح الأحداث فجأة ما سميت بالثورات البرتقالية في بعض الدول التي كانت تنتظم الاتحاد السوفييتي السابق، وتحديداً أوكرانيا وجورجيا. وحتى هاتان الثورتان البرتقاليتان (نسبة إلى اللون البرتقالي الذي توشح به المشاركون فيها)، اتضح فيما بعد أنها لم تكن وليدة ظروفها المحلية الصرفة وإنما تدخلت في ‘تصنيعها’ عوامل خارجية نفخت في كيرها. ولذلك فإنه عندما تندلع ثورتان شعبيتان، هما الثورة القرغيزية والثورة التايلندية، في منطقتين جغرافيتين متباعدتين، وإن كانتا في قارة واحدة هي القارة الآسيوية، وفي وقت متزامن، وذلك حين اعتقد العالم أن عصر الثورات قد انتهى وولى إلى غير رجعة - فإن ذلك يُعد أمراً لافتاً وغير مألوف نظراً لكونه غير متوقع في ظل اكتمال حلقات الكوكبة بالتحاق أبعادها ومكوناتها الاجتماعية والثقافية التي أنشأت عادات وثقافات ذات طبيعية كونية ‘بفضل’ ثورتي الاتصالات والمعلوماتية الهائلتين، وكذلك اتساع نطاق الأطر المؤسسية ذات الطابع الكوني التي وجدت طريقها، بشكل أو بآخر، إلى البلدان الأعضاء في المنظومة العالمية، سواء في صورة مؤسسات تفريعية أفقية (تفرعاً عن إطار مؤسسي كوني) أو في صورة تشريعات وطنية (اشتقاق من تشريع عالمي جامع). ولسوف يزول هذا الاستغراب حال القيام بفحص كل حالة من حالتي ‘الثورة’ اللتين نحن بصددهما (القرغيزية والتايلندية) وتفكيك ثم إعادة تركيب عناصر مكوناتهما. في المُعطى الأول للحالة الأولى (القرغيزية) نجد أننا أمام دولة شبه ‘معدمة’ اقتصادياً، ودولة جديدة نسبياً إذ لا يتجاوز عمرها الحديث وبالتالي تجربتها الاستقلالية (الفتية نعم) في الحكم عشرين سنة (منذ عام 1991 حيث أصبحت جمهورية مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كانت إحدى جمهورياته الخمس عشرة). فهذه الدولة بمساحتها البالغة 9,199 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها البالغ 5,5 مليون نسمة، هي دولة زراعية ورعوية بامتياز، إذ تُقدر ثروتها الحيوانية بحوالي عشرة ملايين من الأغنام والماشية، ومن محاصيلها الزراعية القمح والذرة والأرز والقطن الذي تنتج منه نصف مليون طن سنوياً. ولا يتجاوز فيها دخل الفرد بحساب الناتج المحلي الاسمي (Nominal GDP)، 950 دولاراً سنوياً. ومع ذلك وقبالة هذه الحصيلة المتواضعة لثروات البلاد الطبيعية وطاقاتها الإنتاجية، فإن فساد وتسلط رئيس البلاد المخلوع كرمان بك باكاييف، كان كافياً لبعثرة وضياع وسلب القسم الأعظم مما تنتجه البلاد وسكانها سنوياً من ناتج محلي إجمالي (حصيلة إنتاجها السنوي من السلع والخدمات)، حتى قيل إن نجل الرئيس وحده قد اقتطع لنفسه ‘شريحة’ من هذا ‘المحصول’ تزيد على 300 مليون دولار! فلا غرو أن تفيد الأنباء التي تواترت مع بدء اندلاع الانتفاضة ضد الرئيس وأتباعه يوم السابع من أبريل الجاري، أن نجل الرئيس هو من أمر بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. أما في الحالة الثانية (التايلندية) فإن التحرك الشعبي الذي انطلق من الأقاليم باتجاه العاصمة بانكوك للإطاحة بالحكومة، فهو لا يمكن وضعه في عداد الهبات أو الثورات الشعبية. في واقع الأمر أنه أقرب إلى التحركات الانقلابية المعدة سلفاً، مع سبق الإصرار والترصد لإحداث تغيير في السلطة تحقيقاً لأجندة سياسية خاصة. فمن الواضح أن رئيس الوزراء التايلندي السابق تاكسين شيناواترا المقيم في الخارج بعد إطاحته في ‘تحرك شعبي’ مشابه في عام 2006 تُوِّج بانقلاب عسكري دبرته قيادة الجيش بما يتوافق مع أهداف حركة الاحتجاج في الشارع وشنت بعده حملة سياسية وملاحقات قضائية ضد رئيس الحكومة المخلوع شيناواترا بتهم المحاباة والفساد وعدم احترام المَلَكية - من الواضح أن شيناواترا الملياردير المقيم في المنفى هو الذي يقف وراء تحريك الشارع وتمويل حملة عصيانه المدني بهدف إجبار الجيش على إقناع الحكومة بحل البرلمان والدعوة لانتخابات يستعيد بموجبها شيناواترا السلطة من جديد. هي إذاً ثورة مصطنعة، إن شئتم، غايتها التمرد على السلطة والنظام العام ليس احتجاجاً على أوضاع معيشية أو سياسية مزرية، وإنما لإعادة أحد مراكز القوى التي تتنازع السلطة في تايلند منذ بضع سنوات إلى السلطة قسراً وعنوةً. الآن، هل هذا يعني أن الثورات قد نضب معينها، وأنه لم يعد بالإمكان حدوثها؟ ليس هذا ما قصدناه تماماً، إنما القصد أن حدوث الثورات لم يعد متاحاً كما كان الحال في السابق، قلنا إن ذلك مرده عوامل خارجية ألقت بظلالها على مصادر التطور والتقدم القطرية (المحلية) وعلى مساراتها الفرعية، السياسية والاجتماعية والثقافية، حتى لم يعد بإمكان الدول المستبدة، مهما بلغت درجة استبدادها، ألا تتعاطى مع هذه الموجة من العولمة (السياسية والثقافية والاجتماعية) في شكل قبول الانضمام إلى كافة المواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية المنظمة لعلاقات الدول كأجهزة مع مجتمعاتها وأفرادهم وحماية وحفظ حقوقهم الأساسية، وفي صورة التواجد في سوق الاتصالات والمعلوماتية الدولي بجعل شبكة الإنترنت متاحة للجميع من دون استثناء.. حتى ولو حدث ذلك اضطراراً وتمويهاً وتحايلاً لإثبات المجاراة والمواكبة مع النسق العالمي العام. ولاشك أيضاً أن هنالك دوراً لا يُغفل للأجهزة الأمنية التي طورت أساليبها لتقوية شوكتها وسيطرتها التامة والمحكمة على المجتمعات فرفعت كلفة معارضة أنظمتها أو حتى انتقاد أخطائها أو لومها على حدوث اختلالات هنا أو هناك، إلى حدودها القصوى. إنما القانون هو القانون، فمثلما يؤدي استهتار رأس المال بالعلاقة المتوازنة (افتراضاً) بين قيمة السلعة (أي كلفة المواد المدخلة في تصنيعها والعمل المبذول في عملية تصنيعها) وبين سعرها في السوق، إلى حدوث ما تسمى الفقاعة (Bubble) التي ما إن يصل انتفاخها إلى حدوده القصوى حتى تتفرقع في وجه الجميع، كذلك الحال بالنسبة للمقاربة المجتمعية، حيث إنه مع تراكم السخط الشعبي (Discontent) ووصوله إلى حدوده القصوى، فهو إما أن يتم تنفيسه حكومياً أو ينفجر في صورة ثورة عارمة غير مُتَكهَّن بتداعياتها ومآلاتها.
صحيفة الوطن
1 مايو 2010