بعد نحو عقد ونصف العقد من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، فإن أفكار العدالة الاجتماعية والبحث عن خيار آخر للعالم تعود لتطرح نفسها بقوة، حتى تلك القطاعات من الناس التي صدقت أن البديل أصبح من الماضي ولن تقوم له قائمة بعد اليوم، بدأت تدرك وبالمعاينة الميدانية زيف ذلك ، فالديمقراطية كأي شي آخر لا يمكن أن تأتي على دبابات الغزو والاحتلال.
هذا إذا جرى الحديث على مستوى المجتمعات، كل مجتمع على حدة، أما إذا دار الحديث عن المستوى الكوني، فلنا أن نرى في الحروب التي تعمل شركات ومافيا السلاح على إشعال فتيلها مظهرا من مظاهر الأصولية الاقتصادية التي لا تتورع على الدفع بعشرات ومئات آلاف وحتى ملايين البشر إلى الموت، طالما كان استمرار الحروب يؤمن عائدا دائما متناميا من الاتجار بالأسلحة، وعلى المرء ألا يفتش في الدوافع الاقتصادية أو الاجتماعية للحروب ، وإنما يفتش أيضا عن شركات ومافيا السلاح الدولية التي لها مصلحة في تسعير هذه الحروب وإدامتها، لتظل سوق السلاح منتعشة.
ويمكن لآليات العولمة الاقتصادية والثقافية وغيرها تؤمن سبلاً فعالة لتحقيق الأهداف التي يمكن للقوة العسكرية المباشرة أن تؤديها من خلال إضعاف الدول وتفكيكها، لتحقيق انسيابية أكبر في تدفق رؤوس الأموال والسلع التي تبحث لها عن أسواق وفرص جديدة للاستثمار والتصريف لا تحيط بها أسوار الحماية، ولا تتدخل الدولة فترهقها بالضرائب العالية، وعن عمالة رخيصة غير محمية بفرض حد أدنى لأجورها، أو بوضع الشروط القاسية لفصل العمال. ولكن يظل باعثاً على الاهتمام أن الغرب لم يعد يجد غضاضة في اللجوء إلى الأساليب التقليدية بما فيها الغزو والاحتلال.
بعض الدراسات تقول انه يكفي اقتطاع أقل من 4% من الثروة المتراكمة لما لا يزيد على 225 رجلا فقط هم أثرى أثرياء العالم، للوصول إلى تلبية حاجات كل العالم في الصحة والتعليم والغذاء، والتي لا تزيد كلفتها على ثلاثة عشر مليار دولار، أي بالكاد ما يصرفه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سنويا على شراء العطور.
إن بدا أن ذلك يعني في الظاهر إخضاع العالم، فإنه في الجوهر يستنهض قوى عديدة على مدار الكوكب لن ترضى بأن يقاد العالم نحو هذا الخيار المدمر للبشرية وللبيئة ، نتيجة استشراء نفوذ ما بات يدعى “الليبرالية الجديدة” التي تستعير من الرأسمالية، أدواتها القديمة القائمة على تسييد مبدأ الربحية كحاكم أوحد، وتعيد النظر في الضمانات الاجتماعية والمكتسبات التي نالتها الفئات الكادحة في صراعها المديد مع أصحاب رؤوس الأموال، وتطال إعادة النظر هذه حقولاً مهمة كالتعليم والصحة والإعانات المعيشية والاجتماعية والخدمات الثقافية والترفيهية وإلغاء الدعم على الأسعار وتجميد الأجور وتحرير التجارة الخارجية وبيع القطاع العام.
إن ما يجري في أماكن مختلفة من العالم يقدم مثالاً عن طبيعة التحولات الدائرة في هذا الكوكب علينا تأمله ملياً، لأنه يؤكد وجود خيار آخر ، هذا طبعا إذا أحسنت القوى الديمقراطية تدبر أمورها على نحو مختلف .
صحيفة الايام
28 ابريل 2010