لم اكن متخيلا انني سأعود الى كوالالمبور عاصمة ماليزيا بعد اربعة عشر عاما خلت ’ ففي اكتوبر من عام 1996 اخترتها عندما كانت لتوها خطوط طيران الامارات تقدم اسعارا مغرية فمن لارنكارالى مطار دبي كان السعر معقولا في حينها ولكن الاكثر معقولية واغراء هو اضافتك 70 جنيها قبرصيا لكي تمتد الرحلة من كوالالمبور حتى لارنكا مرورا بدبي . كان موضوع السعر استفزازيا لشخص مصاب بوباء السفر مثلي فاستهوتني المدينة والبلاد حيث يومها كانت ماليزيا مثار اعجاب دول العالم الثالث واقتصاده المنكوب .
اتذكرها في ذلك الوقت ماليزيا وتحديدا كوالالمبور التي منحتني شعورا بأنها مدينة مملة ’ محافظة ’ تشعرك بنفس البوليس الخفي والكتمان المريع للناس في حقهم في التعبير عن مكنوناتهم . كان يومها لتوه لم يبلغ عنان السماء البرجين التوأمين ’ باعتباره انجازا ماليزيا في المعمار والتجارة والاستثمار ’ الا ان اللون الرصاصي ظل حاضرا حتى القمة التي لم تكتمل بعد . التقطت صورا للبرجين وهما في مسارهما نحو الفضاء لعلني يوما اعود اليهما دون رغبة مني او ارادة مخيرة ’ فقد كان الهدف هو العبور نحو فيتنام اما من بوابة تايلند او من خلال بلد مثل ماليزيا فوقع الاختيار على كوالالمبور كونها تقع في المركز القريب للمشروع السياحي الذي خططنا له . في المرة السابقة اي قبل اربعة عشر عاما زرت مالاكا البرتغالية بكل ما فيها من مميزات للمدينة المختلفة عن بقية المدن ’ حيث بات الصينيون الاوائل في هذه المدينة ماليزيين قح ! فنسوا لغتهم الاصلية ’ فيما ظلت نواقيس الكنائس والمعمار الاوروبي والقنوات المائية والبيوت ذات الطراز الاوروبي تذكرك بالمدفع الهولندي والبرتغالي القديم ’حيث يقف ذلك المدفع وتلك القلعة القديمة عند شاطئ مالاكا قريبة من جزيرة سومطرة الاندونيسية . لقد نسى العالم حروب التوابل في الهند الصينية وكيف تصارعت القوى الاوروبية في هذه المنطقة ’ حتى لحظة صعود القوى العالمية الجديدة ونيل هذه البلدان استقلالها الوطني ’ ولكن دون ان تنساها السياسات العالمية فمارست عليها التمزيق والتفتيت ’فانفصلت جزر الملايو لكي تولد هنا دولتان الاولى سنغفاورة والثانية ماليزيا ’ ومع ذلك ظل في ذاكرة السكان الاصليين المنحدرين من الابوجوريين الاقرب لسكان واقوام استراليا الاصليين ’ بينما شكل الماليزيون الجدد القادمون من الارخبيل المجاور لها حجر التكوين القادم لماليزيا . هكذا يتعايش ثلاثة اعراق رئيسية هم الهنود والصينيون والماليزيون ’ بل ويشكل الصينيون والهنود المعادلة السكانية في مواجهة الملاويون ’ فيما تبقى ارقام صغيرة لا تشكل اية اهمية سياسية واقتصادية . تقاسم الاعراق الثلاثة مجالات مختلفة ’ ففي الوقت الذي يسيطر فيه الملاويون على الجيش واجهزة الدولة والامن وجزء من الاستثمارات الكبيرة ’ فان الصينيين هم من يسيطر على حركة التجارة والسوق والاعمال المصرفية دون ان يمنعهم حاجز اختراق مواقع مراكز القرار السياسي عبر هيمنتهم المالية ’ فيما بقى الهنود – كما حدثني الدليل السياحي الهندي- بانه ينتمي للجيل الثالث من الهنود الذين جاؤوا من مدراس مع مرحلة الانكليز فشيدوا سكك الحديد وعملوا في مجالات زراعة المطاط وامتهنوا مهنا مكتبية ومهنا بيروقراطية مع زمن الانكليز ’ ولهذا من الطبيعي ان تجد اليوم ان الهنود يعملون في مهن عدة كمصرفيين واطباء ومحامين ومهندسين ’ بل وصار الوضع الاجتماعي والاقتصادي في هرم مثلث.
المجتمع الماليزي يتيح فرصا لصعود رموز مالية عدة ومن الطوائف جميعها مع تطور المجتمع المستمر والمتبدل . بقي السكان الاصليون وهم اقلية صغيرة من الابورجيين الاوائل يعملون في مهنهم القديمة كصيادي اسماك ’ بل ومازالوا يعيشون في مناطق مغلقة يعيشون عزلة نسبية وفي داخل الغابات الكثيفة في جزر ماليزيا ’ ولهذا ستجدهم بكثرة في منتجعات جزيرة لانكاوي يعملون في مهن البحارة ’ الذين ينقلون السياح في تطواف جميل نحو الجزر الصخرية المرجانية والمائية الخضراء ’ بل ويلاحظ المجتمع الماليزي ان طبائع الابورجيين الاصليين تغيرت مع عالم السياحة ’ اذ اصيبوا بلوثة الجشع المالي لكونهم اكتشفوا ’’ حلاوتها ’’ مؤخرا مع قدوم السياح للمنتجعات التي تطورت خلال الخمسة عشرا عاما الاخيرة .
في كوالالمبور الرتيبة اكتشفت بين المرحلتين ’ ان هناك متغيرا كبيرا في القيم الاجتماعية فرضتها الحياة السياحية ’ فاذا ما كان في عام 1996 العالم الماليزي مغلقا ولا يمكن ان تجد مشهد الاوروبية الحسناء بشورتها القصير والمحلات المفتوحة التي تقدم كل اشكال الكحول والاطعمة ’ تاركة للناس حرية الاختيار والتمتع بوقتهم دون مضايقات . لم تكن ماليزيا الاسلامية المغلقة يومذاك تدرك الى اين سيقودها الانفتاح السياحي ؟ ولكنها على الاقل عرفت كيف تتعامل مع المتغير بمرونة كافية محاولة الحفاظ على هويتها وشخصيتها المحلية والعرقية في انسجام كامل مع الطبيعة العالمية والاممية للسياحة والتفاعل مع اللغات والثقافات المنهمرة في فضاء ماليزيا وجزرها الجميلة . كانت يومذاك كوالالمبور ممطرة ولكنها هذه المرة كانت تمطر عند الثالثة بعد الظهر او مع الخامسة مطرا خجولا ينعش الحياة ’ فترى زرافات السياح يفتشون عن مظلات صغيرة في الامكنة المريحة ’ حيث تلتقي الثقافات العربية والاسلامية المنغلقة والمحافظة جنبا الى جنب مع الثقافات الاوروبية المفتوحة على كل النوافذ ’ دون ان يفرقها ذلك المطر المنهمر في سماء كوالالمبور ’ حيث الحياة بدت مختلفة تماما عن الرحلة القديمة ’ ولكنها ظلت بالنسبة لي مدينة لا يمكن العيش فيها طويلا لأكثر من ثلاثة ايام عابرة ’ فالرحيل نحو الجزر ودول الجوار هو الاهم كثيرا من مفردات متناثرة ’ تذكرك بعبارة الحلال والحرام وبأنك في النهاية سائح في مجتمع اسلامي مهما حاولت نسيان تلك الحقيقة !
صحيفة الايام
27 ابريل 2010