المنشور

عمي يا بو شاكوش


 
ليست الحياة عزيزة على الإنسان فقط، بل وفي داخل الإنسان ذاته، كما يقول واضع نظام علم النفس الفردي ألفريد أدلر (1870 – 1937م)، ” تسعى الحياة دائما لأن تستمر، أما قوة الحياة فلا تستلم دون صراع حتى النهاية”.

غير أن صراع المناضل السياسي في صفوف جبهة التحرير الوطني، وبعدها في المنبر الديمقراطي التقدمي، والقائد النقابي البارز عبد الجليل عمران ( الحوري) لم يكن مع سكرات الموت قبل أن يعاجله حين خرَّ شهيد الواجب وسط الاعتصام الحاشد الذي نظمته نقابة المصرفيين يوم السبت الماضي 24 أبريل/ نيسان.

كان صراعه مع أولئك الذين جيَّروا كل اقتصادنا الوطني في فترة ما عرف ” الرواج المالي”  لفتح أوسع القنوات التي صبَّت أموالا خيالية في المؤسسات المالية وجيوب المتنفذين فيها. ولما دقت ساعة الأزمة الاقتصادية التي أشعلها رجال المال حول العالم، وضاقت قنوات الضخ المالية تلك، لم يعدم المتسببون في الأزمة وسيلة ليجعلوا من موظفيهم العاديين ضحايا تدفع ثمن السياسات المغامرة لعالم المال. أهم هذه الوسائل هي تسريح أعداد كبيرة من موظفي المؤسسات المالية من العمل فيها.

فقيدنا الغالي جليل الحوري المتقاعد عن العمل منذ سنوات طويلة، والذي بلغ حتى الأول من أمس نفس عمر المفكر ألفريد أدلر، ليس من الضحايا المباشرين لهذه التسريحات. لكنه المعروف دائما بانتصاره للقضايا العمالية يهبُّ لنصرة كل ضحايا الاستغلال. وحتى في الندوات العادية في المنبر عندما يهدر صوت جليل الحوري محتجا على ظاهرة لا تعجبه، يخال إليك وكأن السماء تزمجر وتصعق خارج القاعة. صوته الهادر ليس مليئا بالحياة فقط، بل ويريد للحياة أن تستقيم بالعدل والقسطاس.

ولست أدري إذا كان فقيدنا شاهد ما نشرته الصحافة الغربية من صور لمديرين تنفيذيين من مصرف غولدمان ساكس، سيّد الوول ستريت، وهم يسخرون من الأزمة المالية العالمية التي حققوا من ورائها أموالا فلكية، لكنه يعرف جيدا أن الأبنية التي تضم المصارف حول العالم أصبحت الآن هشة للغاية. وربما خُيّل إليه لو أنه واصل هتافاته فإن صوته الهادر سيجعلها تشعر بإمكانية سقوطها على الأرض. سيحدث هذا إن لم تتدارك أمرها بقهر طغيان المال في عالم الاقتصاد وليس بإعادته. فهل وصلت رسالة الفقيد أم أن الموت حال دون ذلك؟ في كل الأحوال سيسجل التاريخ لهذا المناضل البسيط والجسور صرخته الشجاعة.
ولقد سبق لجليل الحوري أن سجل مواقف فريدة من نوعها في المنعطفات التاريخية لشعبنا.

لا أزال أذكر أيام حل المجلس الوطني وبداية الهجوم الواسع النطاق على الحريات الديمقراطية والديمقراطيين الحقيقيين في البحرين، الذين غُيّبوا في السجون أو شُردوا بين ليلة وضحاها. حينها قال جليل جازما أن ليس ما يوقف هذا الهجوم سوى الدعوة للإضراب العام لشل الحياة في البلاد. كل الآخرين رأوا جازمين أيضا أن وجود العدد الأكبر من القياديين في السجون وسواد الإرهاب والحالة الجماهيرية أصبحت أضعف من أن تنجح مثل الدعوة. وأن التوجه لإعادة البناء هي الأجدى. أذعن جليل لرأي رفاقه آنذاك، ولم يختبر الزمن صحة دعوته من عدمها، لكن صوته الهادر الشريف لم يهدأ يوما.

وهذه المرة أيضا. ربما رأى الفقيد عبد الجليل بحدسه الثوري أن أزمة المصارف، رغم نكرانها من قبل أوساط المال، إلا أنها إن لم يجر الاعتراف بها وبحجمها، ثم وضع الحلول الناجعة لها حقا، فإن ضحاياها لن يعودوا هم المسرحون فقط، بل والاقتصاد والمجتمع.

جليل.. لم يمهلك ويمهلنا الزمن لنسمع صوتك الهادر كالعادة في احتفالات عيد العمال العالمي في الأول من مايو/ أيار المقبل. ومع ذلك لتثق أن صداه سيتردد في ذلك اليوم وبين جدران منبرك وفي شوارع ومصانع ومؤسسات بلادك دائما.
جليل سنذكر صوتك ليس بعنفوانه الغاضب فقط، بل والحالم بطيبة وثقة، كما سمعناك في السبعينات تردد بطرب مع الجميع وأعلى من الجميع :

عمي يابو شاكوش خذني، خذني وياك
خذني ويا العمـال حلوة عيشة هنـاك

عش هناك، أبا منير، هانئا، قرير العين.