كان الخطأ القاتل الذي وقعت فيه سلطات الاحتلال الأمريكي للعراق بقيادة الجنرال بريمر، غداة احتلالها العاصمة بغداد واسقاط نظام صدام حسين، ليس تفكيك وحل المؤسسة العسكرية (الجيش الوطني العراقي) فحسب، بل تفكيك وحل ايضا المؤسسة الأمنية بمختلف اجهزتها البوليسية والعسكرية، وعلى الأخص الجهاز الأمني الاستخباراتي.
ومن المؤسف ان المعارضة العراقية بشقيها الشيعي العربي والسني الكردي لم تقف ضد هذا الاجراء بل بدت كأنها مغتبطة به لقصر نظرها في خطورة هذا الاجراء وعواقبه ولم تجر انتقادات لتلك الاجراءات من قبل بعض رموز وقوى المعارضة الا بعد فوات الأوان، حتى هذه الانتقادات بدت خجولا، بل الأسوأ من ذلك اقتصرت على حل الجيش فقط.
ورب قائل ان جهاز الأمن السري السابق (المخابرات) هو جهاز لا يمكن الوثوق فيه لكونه متورطا في سلسلة طويلة من انتهاكات حقوق الانسان والجرائم بحق الشعب العراقي على امتداد ما يقرب من 35 عاما منذ وصول “البعث” الى السلطة عام .1968 ولعل هذا الكلام يبدو للوهلة الاولى صحيحا اذا ما أخذنا الأمور على عواهنها أو انسقنا للعواطف السياسية والمبادئ المجردة، ولكن اذا ما محصنا الأمور جيدا بموضوعية من جميع الوجوه، اي بعيدا عن العواطف الجامحة، فسنجد ان مصلحة الشعب العراقي وأمنه القومي الداخلي بمختلف ابعاده السياسية والاجتماعية يقتضيان استمرار عمل هذا الجهاز في ظل تلك الظروف البالغة الخطورة من الاضطرابات التي تعصف بالعراق.
ان بناء وتأسيس جهاز أمني استخباراتي من لا شيء، اي من الصفر، في ظل بلد بلا دولة تقريبا وتعمه الفوضى والاضطرابات والعمليات الارهابية الضخمة اليومية والمعروفة بحصادها الكارثي من مذابح جماعية يومية ترتكب بحق المدنيين الابرياء هي مهمة عسيرة وبالغة التعقيد وليست سهلة او يسيرة كما يتوهم من يعتقد عكس ذلك، فلم تعد المؤسسة الأمنية السرية او الجهاز الاستخباراتي في الدولة الحديثة المعاصرة هي مؤسسة عادية يمكن بناؤها بكل بساطة بين عشية وضحاها لتمارس مهامها بفاعلية كأي مؤسسة استخباراتية اخرى في العالم، بل هي علم وفن قائم بذاته وبحاجة الى ان تبنى على تراكم من الخبرات والتقاليد. وهذا ما ادركه بالغريزة النظرية كل او معظم قيادات وسلطات الانظمة العسكرية العربية التي وصلت الى السلطة على ظهر دبابة، فلم يعرف عن اي من السلطات الانقلابية العربية انها اقدمت بتهور على الفور لتطهير او تصفية جهاز المخابرات القديم بالكامل، فقد كانت تستعين بخبرته بشكل أو بآخر، بقدر أو بآخر.
حتى قيادة ثورة يوليو المصرية على سبيل المثال فإنها بالرغم من انها تسلمت اجهزة ومؤسسات دولة ينخرها الفساد، وبضمنها مؤسسات وزارة الداخلية فإنها لم تعمد بعد تسلمها السلطة انسياقا للعواطف الى حل تلك المؤسسات حلا كاملا او تصفية كل كوادرها وخبراتها وبضمنها على وجه الخصوص الجهاز الاستخباراتي.
وأذكر في هذا الصدد انني قرأت منذ سنوات بعيدة كتابا عبارة عن مذكرات لأحد معتقلي اليسار المصري عام 1959 وكان من ضمن ما أشار اليه ان عددا من المحققين والجلادين الذين تفحص وجوههم ومازال يعرف اسماءهم حينها هم انفسهم من محققي وجلادي العهد الملكي الذي اطاحته ثورة يوليو .1952
صحيح ان عددا من كبار قيادات الاجهزة الاستخباراتية او من الصف القيادي الأول وبخاصة المتورطون منهم في جرائم وانتهاكات واسعة فظة بحقوق الانسان لا يمكن الوثوق فيهم، بل لربما وجبت محاكمتهم، لكن من الصحيح ايضا انه كان بالامكان اجراء عملية غربلة دقيقة خلال مرحلة انتقالية مؤقتة يتم خلالها الاستفادة من الكوادر الاستخباراتية المجربة ذات الخبرات المهمة سواء من في الصفوف الأولى، من غير المتورطين في انتهاكات وجرائم كبرى ام من الصفوف الثانية، ومن ثم يمكن الاستعانة بهم لإعادة بناء جهاز الاستخبارات على أسس وطنية وقانونية جديدة، وإعادة تأهيل من يمكن تأهيله منهم خلال المرحلة الانتقالية او استبعادهم او إحالة بعضهم إلى التقاعد بعد انتهاء هذه المرحلة طبقا لظروف كل حالة على حدة.
وبسبب غياب جهاز امني استخباراتي عراقي فاعل مجرب عجزت المؤسسة الأمنية الجديدة منذ تفجر اعمال العنف والعمليات الارهابية عن كشف اي عملية من هذه العمليات أو خلية من خلاياها في مهدها اي الوصول اليها قبل طور التنفيذ، بل ان أكثر العمليات الانتحارية جرت دون ان تتمكن وتصل المؤسسة الأمنية بعدئذ إلى معرفة خيوط الخلية والشخص الانتحاري الذي قام بتنفيذ العملية.
في روسيا حدث العكس من ذلك فقد استفاد النظام الجديد الذي ورث النظام السوفيتي السابق ايما استفادة من جهاز الاستخبارات السابق المعروف بالـ K.G.B بما في ذلك ما راكمه من خبرات وتجارب وتقاليد عريقة في العمل الاستخباراتي لمكافحة الارهاب. واذا كانت موسكو لم تحقق الكثير من النجاحات للوصول الى مخططي العمليات الارهابية قبل وصولها الى طور التنفيذ، فإنها على الأقل غالبا ما تصل بسرعة فائقة الى الخيوط التي تقود الى الرؤوس المخططة والمنفذة، وهذا ما حققته بعد وقت قصير من العمليات الارهابية الاخيرة التي جرت خلال أواخر مارس في مترو الأنفاق بموسكو وفي قزلار بالقوقاز، وبضمنهم الانتحاريتان اللتان نفذتا تلك العمليات. لكن كما ذكرت فإن العلاج الأمني رغم أهميته ليس كافيا من دون علاج واستئصال المسببات الأخرى الاقتصادية والسياسية والدينية والقومية التي تمهد التربة لتفقيس العقليات الارهابية ليس في العراق وروسيا فحسب، بل في كل بلد يعاني هذا الوباء.
صحيفة اخبار الخليج
25 ابريل 2010