ألم يتعب بعد عبدالله خليفة؟ لا يبدو أن ذلك أمر وارد حتى الآن. الروائي غزير الإنتاج وأحد أبرز المقارعين على محاور المأثرة السبعينية التي فتحت سؤال الحداثة وصعدت بالنقاش الأدبي بشأن اتجاهات الكتابة إلى منتهاه، لا يزال يلج في التجربة حتى منتهاها. وخلاف أي من أبناء جيله، يبدو أنه أكثرهم وفاءً لشرط الكتابة، وغزارة إنتاجية سواءً بسواء.
آخر ما صدر له في سياق الكتابة الإبداعية، روايتان: ‘محمد ثائراً’ و’ذهب مع النفط’. وقد طرحهما أول مرة في غضون معرض الكتاب الدولي 14 المنتهي تواً في غضون الفترة من 17 إلى 27 مارس/ آذار الماضي. ليكون بذلك قد طرح في غضون العامين الأخيرين فقط، أي منذ العام ,2008 ست روايات على الأقل. الشيء الذي لا يكاد يتيسر لأي من الشخصيات المجايلة له، بل شخصيات التجربة الشابة، حتى وهي في كامل ‘فتوّتها’ الآن، العضلية والروحية. هذا في سياق الكتابة الأدبية الصرفة ضمن التصريفات القارّة لعملية الإبداع. ما يعني استثناءنا طبعاً لأشكال الكتابة الأخرى، لا سيما تلك الفكرية التي يخوض في غمارها منذ سنين، ونعني تحديداً استثناء من كل ما صدر له، مطارحته الدؤوبة في سياقات ‘الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية’ التي يصدر له فيها جزء رابع قريباً.
في روايتيه الجديدتين اللتين صدرتا من بيروت عن ‘مؤسسة الانتشار العربي’ يستأنف خليفة رحلته في غواية السرد لكن على جبهتين مختلفتين. الأولى تتصل بكتابة الرواية التاريخية، التي يكاد يكون متفرداً فيها، حيث يمكن عده الوحيد الذي يعمل أدواته الكتابية ضمن هذا الباب، وهو ما يمكن أن يمثله صدور رواية ‘محمد ثائراً’ – كان من المفترض أن تأتي تحت اسم ‘أنوار محمد’ -.
ولا بأس هنا من التذكير بأن الرواية تأتي في سياق مشروع ممتد للكاتب بدأه منذ العام 2004 مع إصداره ‘رأس الحسين’ التي استعاد فيها سيرة الحسين بن علي بن أبي طالب(ع). سرعان ما أتبعها بـ 3 روايات متصلة ضمن حقل الرواية التاريخية، وقد وضعت في سياق حيوات ثلاثة من صحابة النبي محمد، وهي على التوالي: ‘عمر بن الخطاب شهيداً’ 2007 و’عثمان بن عفان شهيداً’ 2008 و’علي بن أبي طالب شهيداً’ .2008 وهو مشروع يذكر بمشروع ‘العبقريات’ الذي تصدى له المفكر المصري عباس محمود العقاد في النصف الأول من القرن العشرين.
وقد لاقى مشروع خليفة بصدد الرواية التاريخية من الحيف، الشيء الكثير، خصوصاً مع تعرض غير رواية له وضعت في هذا الإطار للمصادرة من قبل الرقابة. فيما شكل صدور روايته الجديدة ‘محمد ثائراً’ استثناء القاعدة. وهي رواية راهن عليها الكاتب كثيراً و’لعلها الأصعب’ مثلما عبر المؤلف في حديث سابق مع محرر «الوقت». خصوصاً مع مجيئها في سياق “عبقرية” شخصية فذة، يأتلف داخلها التاريخ مع التقديس، سواء بسواء. في ذات الوقت الذي يمثل البحث عن هوامش التجلي البشري لها – أي التاريخي خارج سطوة التقديس – واحدة من المعالجات السردية التي يعكف عليها المؤلف. وعلى ذلك يمكن أن نقرأ نعت المؤلف لها في ظهر الغلاف بأنها «رواية محمد الإنسان».
في الجبهة الثانية، تأتي رواية «ذهب مع النفط» التي هي بحسب المؤلف نفسه ‘رواية واقعية كابوسية ساخرة’. الشيء الذي يمكن أن يصله بمراحل تجربته السابقة التي عبر فيها من خلال نحو 11 رواية، آخرها كانت «التماثيل» التي صدرت العام ,2007 عن انحياز متواتر للمذهب الواقعي، الذي شكل واحداً من محاور الاختلاف مع بقية أبناء جيله فيما أسميناه في المستهلّ “المأثرة السبعينية”.
لذا فهو يواصل التعبير عن هذا الاختلاف لكن بـ«خلاف أقلّ وإنتاج أكثر»، مشكلاً مناعة ‘عملانية’ ضد كل أشكال ‘الجاذبية’ التي وفرتها مذاهب التجريب والحداثة وما حذا حذوهما. كما عبر فيها ثانياً، عن وصال حميم مع مضمون أثير ظل ساطياً على جل أعماله، منذ ‘اللآلئ’ و’القرصان والمدينة’ و’الهيرات’، وما تلاها لغاية هذه الساعة، ألا وهو الانحياز للفئات الفقيرة والمهيمن عليها في ‘جدلها’ وصراعها المحموم مع القوة والثروة.
على ذلك وجدناه يقول ‘هذه الرواية، الفرد الوحيد حين يسحق، يداس كحشرة’ في ذات الوقت الذي يكون فيه ‘النفط يملأ البلد، ويصير بحراً ويبتلع البشر والأرض’. هذا وستصدر للمؤلف قريباً روايتان جديدتان في هذا الإطار تحت اسم ‘الانهيار’ و’حورية البحر، إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان ‘إنهم يهزون الأرض’. أرأيتم؟ عبدالله خليفة لم يتعب بعد، يجب ألا يتعب.
الوقت: حسين مرهون
22 ابريل 2010