المنشور

أمـــريكـــا تــكــفــيرية أيــضـــاً

استقر في‮ ‬أذهان الناس،‮ ‬نخباً‮ ‬وعامةً،‮ ‬وذهب مضرباً‮ ‬على أقصى درجات إقصاء وإلغاء الآخر ونفيه من الوجود كلياً،‮ ‬وهي‮ ‬النزعة التي‮ ‬تملكت جماعات الإسلام السياسي‮ ‬الأصولي‮ ‬وخرجت بها على المجتمعات العربية‮ ‬‭-‬‮ ‬ومن بعد الإسلامية الآسيوية‮ ‬‭-‬‮ ‬في‮ ‬العقود الثلاثة الأخيرة،‮ ‬والمتمثلة تحديداً‮ ‬في‮ ‬المذهب التكفيري‮ ‬الذي‮ ‬يُنظِّر واضعوه الأوائل لتكفير كل من ليس هو معهم وكل من لا‮ ‬يوافقهم الرأي‮ ‬فيما‮ ‬يطرحون من أفكار مغرقة في‮ ‬الغلو والتطرف الذي‮ ‬أوصلهم حتماً‮ ‬لحد تكفير مجتمعات بأسرها واعتبار بقاعها وديارها دار حرب تستوجب إعلان الجهاد المقدس لتطهيرها من سكانها الأعداء الكفرة‮.‬ لكن‮ ‬يبدو أن إقصاء الآخر وإخراجه من الملة وتكفيره توطئة لمحاربته ومقاتلته ومحاولة القضاء عليه،‮ ‬ليس‮ ‘‬حقاً‮ ‬حصرياً‮’ ‬للجماعات الإسلامية التكفيرية‮!‬ فالولايات المتحدة الأمريكية هي‮ ‬صاحبة السبق في‮ ‬هذا المضمار،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬تمتلك الرقم القياسي‮ ‬المسجل باسمها في‮ ‬موسوعة جينس للأرقام القياسية منذ بروزها كقوة عظمى أولى في‮ ‬العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1945‮ ‬بل وحتى قبل هذا التاريخ أيضاً،‮ ‬حيث كان شعار‮ ‘‬من لم‮ ‬يكن معنا فهو ضدنا‮’ ‬ومقولة إن العالم منقسم إلى قسمين أخيار وهم الأمريكيون وأشرار وهم كل من لا‮ ‬يدين بالولاء‮ ‘‬للباب العالي‮’ ‬أي‮ ‬النظام السياسي‮ ‬الأمريكي‮ ‬وفلسفته الاقتصادية الاجتماعية والثقافية‮.‬ قد تكون كوبا الجزيرة الصغيرة المحاذية للشواطئ الأمريكية النموذج الصارخ والأسطع على أن الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وتحديداً‮ ‬النظام السياسي‮ ‬الأمريكي‮ ‬وطبقته الحاكمة،‮ ‬تُدين بالمذهب التكفيري‮ ‬‭-‬أو الإقصائي‮ ‬في‮ ‬أحسن الأحوال‭-‬‮ ‬انطلاقاً‮ ‬من قاعدة‮ ‘‬من خرج عنا فليس منا‮’.‬ فمنذ أن أطاح الدكتور فيدل كاسترو ورفاقه في‮ ‬يناير من عام‮ ‬1959‮ ‬ضد نظام باتيستا الفاسد،‮ ‬والنظام السياسي‮ ‬الأمريكي‮ ‬يناصب كوبا العداء بعد أن قرر في‮ ‬نفس اللحظة التي‮ ‬أُطيح فيها بنظام باتيستا الموالي‮ ‬لها،‮ ‘‬إخراجها من الملة‮’ ‬واعتبارها دولة مارقة‮ (‬كافرة بحسب لغة ومفردات التفكيريين الإسلاميين الأصوليين‮) ‬تستأهل العزل والحصار وإعلان الحرب‮ (‬المعادل لإعلان الجهاد لدى الجماعات الإسلامية التكفيرية‮).‬ وهذا ما حدث بالفعل،‮ ‬فلقد نظمت وقادت المخابرات المركزية الأمريكية عملية‮ ‬غزو مسلحة للأراضي‮ ‬الكوبية في‮ ‬السابع عشر من أبريل عام‮ ‬‭,‬1961‮ ‬إلا أن هذه المحاولة التي‮ ‬انطلقت من خليج الخنازير بإقليم مانتانزاس،‮ ‬باءت بالفشل وتم القضاء على الغزاة في‮ ‬العشرين من أبريل من نفس العام‮.‬ وتواصلت الحرب‮ ‘‬الجهادية‮’ ‬لنظام‮ ‘‬الفضيلة‮’ ‬الأمريكي‮ ‬ضد النظام المارق‮ (‬الكافر‮) ‬في‮ ‬كوبا،‮ ‬فخلال الفترة من‮ ‬22‮ ‬أكتوبر ولغاية‮ ‬22‮ ‬نوفمبر من عام‮ ‬1962‮ ‬نفذت قوات المارينز الأمريكية حصاراً‮ ‬بحرياً‮ ‬ضد كوبا‮.‬ ورغم مرور ما‮ ‬يقرب من خمسين عاماً‮ ‬على سقوط النظام الموالي‮ ‬لها في‮ ‬كوبا،‮ ‬فإن واشنطن مازالت تواصل حصارها وسياستها العدائية ضد كوبا،‮ ‬بنفس الروح وبنفس الزخم وكأن العالم قد توقف عند تلك اللحظة‮ ‘‬التاريخية‮’!‬ وكل ذلك لأن كوبا اختارت أن لا تُدين‮ ‘‬بالديانة الأمريكية‮’ ‬وهي‮ ‬هنا الرأسمالية بنسختها الأمريكية الأصولية والتي‮ ‬يعتبرها النظام السياسي‮ ‬الأمريكي‮ ‬بمثابة عقد زواج كاثوليكي‮ ‬غير قابل للفسخ‮.‬ وعلى ذلك فإن ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري‮ ‬كلينتون قبل أيام وادعت فيه أن كوبا لا تريد تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة ولا تريد رفع الحصار الخمسيني‮ ‬عنها،‮ ‬هو مجرد نكتة أمريكية سمجة لا أكثر‮!‬ وكما أسلفنا فإن كوبا ليست سوى المثال الأكثر سطوعاً‮ ‬على تطبيقات التكفيرية التي‮ ‬لم تكن مكارثية خمسينات القرن الماضي‮ ‬سوى إحدى تجسيداتها على الصعيد الوطني‮ ‬الأمريكي،‮ ‬حيث ذهب ضحية حملات التطهير الوظيفي‮ ‬والقمع والملاحقة البوليسية والجنائية،‮ ‬عشرات آلاف الأمريكيين لمجرد الاشتباه في‮ ‬ميولهم المتغايرة مع‮ ‘‬الدين‮’ ‬الرأسمالي‮ ‬الأمريكي‮.‬ فقائمة الدول والحكومات والشعوب ضحايا شهوة الثأر والانتقام الأمريكيين جزاءً‮ ‬على ما‮ ‘‬سولت لهم نفوسهم‮’ ‬بمغادرة‮ ‘‬جنة الرأسمالية الأمريكية‮’ ‬إلى حيث‮ ‘‬أمكنة‮’ ‬تجريبية أخرى ربما ساعدت‮ ‘‬مرتاديها المغامرين‮’ ‬على تقليل النزف الحاصل في‮ ‬ميزان مدفوعاتها الخارجية الناجم عن عدم تكافؤ طاقاتها وإمكاناتها التنافسية في‮ ‬السوق المفتوحة مع طاقات وإمكانات‮ ‘‬لاعبي‮’ ‬السوق الكبار‮. ‬وتكاد هذه القائمة تغطي‮ ‬الكرة الأرضية برمتها،‮ ‬من بلدان أمريكا اللاتينية في‮ ‬أقصى الغرب إلى الصين في‮ ‬أقصى الشرق مروراً‮ ‬ببلدان القارة الأفريقية والقارة الآسيوية.فهل هناك كثير فرق بين المنظمات الإسلامية التكفيرية وبين الطبقة السياسية التي‮ ‬تتقاسم وتتداول مؤسسات الحكم في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية؟ طبعاً‮ ‬هناك فروقات بينهما،‮ ‬ولكنها فروقات لا تكاد تتجاوز الشكل وحسب،‮ ‬إنما في‮ ‬الجوهر الصنفان التكفيريان‮ ‬يتشابهان ويتطابقان في‮ ‬الرؤية الفلسفية وتطبيقاتها مادياً‮.‬فكلاهما‮ ‬يؤصل لاستخدام العنف والإيذاء الجسدي‮ ‬والمادي‮ ‬والمعنوي‮ ‬ضد الآخر الذي‮ ‬لا‮ ‬يدين بمذهبهما الإقصائي‮ (‬التكفيري‮).‬
 
صحيفة الوطن
24 ابريل 2010