نقرأ بين الحين والأخر الكثير من المغالطات والتضخيم والانجرار وراء بعض الأمور ’ التي لا تمت للحقيقة بصلة بقدر ما أنها تعبيرا عن ضيق أفق أو تسطيح للأشياء أو حقد أعمى لا يجوز العيش في داخله ابد الدهر ’ لمجرد إن الإنسان يعيش في حلقة فكر محدود ولا عقلاني ’ ومتى ما أخضعته للجدل والموضوعية تراه حوارا أو كلاما مفلسا لا يمكن أن يستقيم ويصمد مع الحياة ونظرية المعرفة . من ضمن تلك التفسيرات التي يخوننا الفكر في الدفاع عنها أو مهاجمتها ’ هو مقولة ’’ إن الفكر اليساري فكرا انقلابيا ’’ ولهذا المنطق تاريخيته ومواقفه الفكرية والفلسفية والسياسية ’ فهناك مفردة الفكر وهناك مفردة اليساري وهناك وهو المهم نعته بأنه فكرا انقلابيا ! فنتساءل من أين انبثقت مسألة الانقلابية تلك ؟ هل استمدت مضمونها من البعد اللغوي أو الفلسفي أو التاريخي / السياسي لكي نتمكن معالجتها بسهولة ومناخ اهدأ من التوتر والعصبية .
لسنا هنا بصدد تحديد الفكر اليساري ’ ولكن عادة ما يدبج ذلك التعبير على دعاة الماركسية ومن يلف في كنفها ومحيطها ’ وعندما يشتد هجوما شنيعا عليه باتهامه بالانقلابية نراه يرتجف ويستنكر وكأنه الحواري بطرس مع معلمه المسيح ’ متناسيا إن الأمور لا يمكن التملص منها لمجرد إننا ندافع بوهن عن فكرنا مقابل فكر أكثر عجزية وغرائبية بل وحتى لا تمتلك مقوماتها المعرفية المتينة كما هو عادة الحوار والجدل ما بين أفكار فلسفية متناقضة ’ بين مدارس مادية عدة ومدارس مثالية كثيرة .
احد النجباء نعتنا بعبارة إن اليسار فكرا انقلابيا ففرحت لهذا النعت ’ فالماركسية بمعناها الفلسفي والجدلي فكرا انقلابيا على المستوى الاجتماعي ألتغييري ’ عندما نجح كبار الماركسية من أمثال ماركس بمناداته بتغيير العالم ’ وعندما بنيت تلك الفلسفية على دحض الفكر التأملي المجرد للعالم إلى الواقع العملي المحسوس ’ فإنها كانت تهدف إلى تغيير العالم بمعناه الاجتماعي والفكري أي بمعنى تبديل وتهديم هذا العالم ببناء عالم جديد مختلف ’ لهذا جدلية الفكر اليساري الماركسي قائمة على التهديم من اجل البناء ’ إذ تترابطان العملية في وحدة تفاعلهما وتجاذباهما في نظرية التطور ’ فإما أن يشدك للوراء للعالم القديم الذي ينبغي تهديمه أو انك تتقدم في اتجاه صاعد وتزيله لبناء عالم جديد ’ لهذا فالفكر الماركسي بطبيعته انقلابيا من حيث بنيته المجتمعية والفكرية والفلسفية ’ خاصة ونحن نتحدث عن نظرية ماركسية في رؤيتها للعالم.
’ غير إن الذين يحاولون فهم مفردة الانقلابية على صعيدها اللغوي الضحل والهامشي ’ بمحاولة لصق مفردة الانقلابية وتعميمها من فعل التآمر كما هو الانقلابات العسكرية ’ فهذا جائز باعتبار إن في النهاية الطريقة هي التي تحدد سلوكنا في رؤية الأشياء وفعلها ’ لهذا الانقلابيون العسكر بما يحملون فكرا أو مشروعا سياسيا ’ فإنهم في محصلة الحركة يسعون إلى تعميم مشروعهم – سواء اتفقنا أم لم نتفق معهم – إلا أنهم يمارسون فعل التغيير في بنية المؤسسة التي ينتمون لها وبعلاقة تلك المؤسسة العسكرية بمؤسسة سياسية هي الدولة. ولا يجوز الخلط بين الانقلاب الفكري والفسلفي في رؤية الحياة والعالم والفكر وربطه بحدث عابر كالاغتيال أو العنف أو الدكتاتوريات التاريخية كما هي دكتاتورية البرجوازية والبرولتياريا ودكتاتورية العسكر ’ فكلها أدوات تغيير وفكر منهجي في الصراع الاجتماعي بين الطبقات في حركة التطور التاريخي .
أوافق إنني انقلابيا في فكري ونظرتي للكون وأسعى دوما من اجل التغيير وهدم كل ما هو رجعي في الكون والفلسفة ومتخلف في المجتمع والعلاقات الإنسانية ’ أؤمن بأنني انقلابي إذا ما كان الفكر الذي انشده في صالح التقدم البشري وتغييره نحو الأفضل وإزالة كل ما هو قديم ومحتضر . فلماذا الخوف من اتهامنا واتهام فكرنا بأننا انقلابيون ؟ اللهم ما يراود ذهننا هو تلك المساحة الضيقة لفعل التآمر السياسي والشخصي والفكري فنسقط في تفسيرات مذهلة ابسط ما يمكن وصفها بأنها ساذجة إلى ابعد الحدود .
اللغة والمصطلح والمفردات القاموسية كلها ’ عناصر متعددة الأوجه فكيف نقيسها وعلى ماذا نطبقها ؟ هذا ما نرجو دعاة الرجفة من كلمة اليسار أو الماركسية أو الانقلاب أن يفهموا ماذا يناقشون أولا وعن ماذا يدافعون ؟ فليس اغتيالا تاريخيا حدث أو مسألة لم تكتمل براهينها وإثباتاتها ’ فنبنى على ضوئها مواقف خائبة وأحيانا للأسف مواقف حاقدة تاريخية ’ إن لم تسقط بالتقادم ’ فإنها حتما تسقط بفعل ضعفها وبراهينها أمام حقيقة الأشياء بما فيها مقولة ’ إن الفكر اليساري فكرا انقلابيا ’ فيما تناسى الآخرين إن الفكر اليميني يفوق اليسار في انقلابيته وعلى كل المستوى السياسي والعسكري والشخصي فهم أيضا دعاة نظرية التآمر والاغتيالات ولسنا نحن فقط .