ثمة اعتقاد شائع لدى الكثيرين فحواه ان ما ينشر في الصحف من مقالات وآراء هو قرين السطحية والمباشرة وعدم العمق، وان العمق والجدية والأصالة قرينة ما هو بين دفتي كتاب، وعن هذا الاعتقاد تشكلت انطباعات خاطئة عند تصنيف مستوى الكتابة أو جديتها أو عمقها، فيقول القائل حين يريد التقليل من أهمية كتابة ما: أنها كتابة صحافية، كأنه بذلك اختزل القول في إعطاء تقييم أدنى لهذه الكتابة بالمقارنة مع ما سواها، أي مع ما هو ليس كتابة صحافية.
هذه التهمة في بعض أوجهها تهمة جائرة، لكن ولتبديد أي استنتاجات متسرعة نقول انه في الصحافة الكثير من الغث والاستسهال، ولكن فيها الكثير من المواد والمقالات والآراء التي لا تختلف عن المواد التي تنشر في الكتب الجادة، من حيث وزنها، إذا وزناها بميزان دقيق.
ولاحظوا أنني قلت الكتب الجادة، ولم أقل الكتب على إطلاقها، ففي الكتب، كما في الصحف، يوجد الغث ويوجد السمين، يوجد العميق ويوجد السطحي، وبالتالي فان معيار جودة المادة لا يتوقف على الوعاء الذي يحملها، كتاباً كان أو دورية ثقافية، أو حتى صحيفة يومية سيارة.
أستاذ الفلسفة المغربي المرموق عبدالسلام بنعبد العالي حاضر في إطار البرنامج الفكري المصاحب لمعرض البحرين للكتاب الذي انتهى مؤخراً عن مسألة ذات علاقة بما اشرنا إليه أعلاه، وكان عنوان المحاضرة، كما عممته وسائل الإعلام: “الكتابة الفلسفية حين تكون كتابة صحافية”، ولكن المحاضر قدم في بداية المحاضرة ما يُشبه الاستدراك، حين اقترح على الحضور أن يكون عنوان المحاضرة: الكتابة الفلسفية حين تكون كتابة شذرية.
ولتوضيح ذلك قال انه يخشى أن يُفهم من العنوان الأول ما يعني حط قدرٍ من مكانة الصحافة كناشرٍ للمعرفة، بما فيها المعرفة الفلسفية ذاتها، فيما كان هدفه هو الإعلاء من هذه المكانة، هو الذي اجترح مأثرة تقديم مادة فلسفية في غاية العمق والرصانة، على شكل مقالات صحافية تنشر في الصحافة المغربية والعربية عامة.
هذه المقالات يدعوها بن عبدالعالي بالكتابة الشذرية، التي تتوخى التكثيف والايجاز وكل ما يمكن أن ندرجه تحت باب نظافة اللغة أو صفائها من الترهلات والزوائد غير الضرورية، وفي إطار محاججته مع المختلفين مع رأيه ذكّرنا المحاضر بقمم بارزة في دنيا الفكر قدمتها إلينا الصحف، قبل أن تقدمها الكتب.