المنشور

الدول الأوروبية وأدوات التعذيب وازدواجية المعايير


حينما توجه الدول الأوروبية دائما وأبدا، دعواتها لدول العالم الثالث ومن ضمنها اقطار الوطن العربي، إلى إشاعة الديمقراطية والحريات العامة لديها.. فان هذه الدول، دول عالم الشمال في الوقت ذاته قد حملت بالمقابل لواء العسف والبطش ضد شعوب دول عالم الجنوب، المسلوبة الإرادة والحرية.. وبحسب ما تحمله بيانات هذه الدول الأوروبية، من خلال مؤتمراتها وقممها، التي تعقد بين آونة وأخرى، حول ترحيبها وتأييدها للعديد من دول الشرق الأوسط، بتسريع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.. فان انظمة هذه الدول الرأسمالية، قد حملت عنوانا لاستبداد النظام الدكتاتوري والشمولي والقمعي على حد سواء، قد يتناقض تناقضا صارخا، لما تحمله هذه الدول من لواء الديمقراطية، الذي قد يبدو إيجابيا في الشكل والمظهر.. بينما يظل في المحتوى والجوهر سلبيا بأبلغ درجات السلب، بل أبلغ الخطورة وأبلغ الاضطهاد المركب للشعوب والمعارضة الوطنية والأحزاب السياسية والرموز الوطنية.

ان مبعث هذه المقدمة الموجزة، هو رغبتنا التطرق إلى الخبر المهم الذي نشر في الصفحة الأولى لجريدة “أخبار الخليج” الصادرة بتاريخ 19 مارس 2010م، والمعنون بـ “دول أوروبية تتجاهل الحظر على تصدير أدوات التعذيب”.. وما تخمض عن استرسال هذا الخبر بالقول: “لاتزال دول أوروبية عديدة تستغل ثغرات في قانون منع تصدير أدوات التعذيب، لتصدير هذه المنتجات المرعبة إلى مختلف دول العالم، ومن هذه الأدوات، هناك قيود للأصابع والأرجل وأدوات تثبيت بالجدران تطلق صعقات كهربائية بشدة (50) ألف فولت على المسجونين والمعتقلين”.

لعل هذا الخبر قد لا يحتاج إلى تمحيص ولا إلى تدقيق.. لأن محتواه يبدو واضح المعالم أمام الملأ تجسده تلك الصفحة السوداء لتاريخ العديد من الدول الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا بسياستها العنصرية، التي أنشأت من خلالها الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وشردت شعبا بأكمله من وطنه، واقتلعته من أرضه بدعم من رؤساء الولايات المتحدة، وخاصة (ولسون وروزفلت وترومان) الذين كانت تربطهم علاقات قوية مع الدوائر الصهيونية، وما ترتب على تلك العلاقة من اجتماع الرئيس الامريكي ولسون مع جيمس آرثر بلفور عام 1917م، وإعلانه مساندة الولايات المتحدة إنشاء وطن ليهود الشتات في فلسطين، مثلما تم الاتفاق (الأمريكي – البريطاني) عام 1924م، على انتداب بريطانيا على فلسطين.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإنه بحسب ما حاربت بريطانيا الكثير من الباحثين والمؤرخين وعلى رأسهم (ديفيد ارفنج) حينما كشفوا زيف الدعاية الصهيونية الكاذبة حول المذابح النازية لليهود، الأمر الذي جعلها تصادر آراءهم وتحارب افكارهم.. فان الولايات المتحدة قد حاربت العضو السابق في الكونجرس الامريكي مؤلف كتاب الخداع (بول فندلي) لأنه فضح فيه أكاذيب المحرقة النازية.

إذاً ليس بمستغرب كما أسلفنا الذكر قيام هذه الدول بعملية تصدير “هذه المنتجات المرعبة من أدوات التعذيب والتنكيل” إلى دول العالم.. كما انه ليس ما يثير الغرابة أن تتعامل هذه الدول الأوروبية بازدواجية المعايير.. وهو مناداتها بالديمقراطية وحملها لواء حقوق الإنسان ظاهريا.. بينما ممارساتها السياسية باطنيا هي النقيض وعلى العكس من ذلك.. طالما جعلت هذه الأنظمة الرأسمالية، من دول العالم الثالث اسواقا رائجة تصدر إليها مخلفات الأسلحة الامريكية والغربية، ضمن صفقات كبيرة تقدر بمئات المليارات من الدولارات.. تأتي على حساب استنزاف الأموال وخاصة العربية، وعلى حساب تدهور الاقتصاد الوطني وخواء ميزانية الدول، وبالتالي رزوح هذه الدولة تحت طائلة المديونية.. مثلما تأتي على حساب تدهور المشاريع التنموية كالتعليم والصحة والإسكان والبحث العلمي، التي جميعها لم يرصد لموازناتها سوى النزر اليسير إذا ما قورنت بموازنة الأمن القومي وصفقات السلاح الطائلة.

ولكون هذه الأنظمة لدى دول العالم الثالث قد آمنت بها الأنظمة الغربية كحراس أمناء على مصالحها الرأسمالية الكولونيالية أو الاستعمارية .. من هنا جاءت عملية تصدير الأدوات المرعبة وآلات وأجهزة التعذيب الغربية لتمثل أداة حفز وتشجيع للنظام الرسمي العربي وفي دول العالم الثالث، على فتح مزيد من السجون والمعتقلات التي تدور فيما وراء قضبانها وفي ظلامية اقبية زنازينها، ابشع عمليات التعذيب الرهيبة بحق الشعوب وبحق المناضلين وبحق المعارضين من الرموز الوطنية، بأساليب أكثر عنفا وتعسفا، وأبلغ أثرا وترهيبا، وهي أشد إيلاما وأكثر خطورة، باستلاب كرامة الإنسان وامتهان إنسانيته.. إذ ان هذا النظام الغربي، قد يتجاهل هذه الأساليب الاستخباراتية لدى هذا العالم الدكتاتوري المتخلف، بقدر ما يتجاهل أجهزته الأكثر بطشا من تلك الأدوات التعذيبية والتنكيلية التي هو يصدرها إلى هذه الأنظمة الاستبدادية.. وهذا ما أكده ويؤكده الكثير من المناضلين الذين رزحوا في غياهب هذه السجون المنسية والمعتقلات الرهيبة في مختلف دول العالم الثالث.. وذلك من خلال تدوين رواياتهم وكتاباتهم وقصصهم ومذكراتهم.. وهو موضوع مهم جدير بتكملته بموضوعات أكثر أهمية بهذا الإطار.

أخبار الخليج 2010