تظهر البداهة في أمور بسيطة. ولفرط بداهتها فإننا لا نتوقف أمامها لنتفحصها، بل إننا غالباً ما ننطلق في مناقشاتنا وحواراتنا التي تصل إلى أبعد حدود الاختلاف من التسليم بهذه البديهيات، فنتعصب لأفكار خاطئة من دون أن نتنبه إلى أنها مبنية على قواعد هشة.
أحد علماء الاجتماع الفرنسيين دعا إلى اشتقاق «فن مقاومة الأقوال المتداولة». كان هذا العالم يعالج قضية البداهة أو المسلّمة التي تتسرب إلينا بشكل سلس، مخملي، ناعم، فنقبلها طواعية من دون التمعن في حقيقة ما إذا كانت صائبة أو لا.
شاعر أجنبي عاش في القرن الماضي دعا إلى أن يتعلم كل فرد فن تأسيس بلاغته الخاصة، ورأى في ذلك نوعاً من أعمال «السلامة العامة» يتطلب مقاومة الأقوال الشائعة، محرضاً قارئه على قول ما يريد قوله هو: «تكلم أنت بدلاً من أن نتكلم بلسانك (تتكلمك) كلمات مستعارة مشحونة بالمعنى الاجتماعي»، الذي يكتسب سطوته من كونه عاماً، بديهياً .
والخروج عن البداهة هو، في شكل من أشكاله على الأقل، خروج على الإجماع، على التوافق، الذي ليس هو بالضرورة أمراً طيباً وحسناً، لأن كل منعطفات التاريخ الكبرى إنما انطلقت من فكرة كسر هذا التوافق والخروج عليه.
نحن ننشأ على البداهة، منذ الطفولة نكتسب القناعات العامة، ثم نندمج في مؤسسات المجتمع بدءاً من المدرسة مروراً بالخلايا الاجتماعية الأخرى . ومع الوقت نتعود على التفكير مثل الآخرين، نفكر بأفكارهم، وقد لا نكتشف أبداً أننا لم نطور لأنفسنا «بلاغتنا الخاصة»، نعني بها تفكيرنا المستقل المبني على مشاهداتنا ومعايناتنا عن الحياة، ونكتشف أيضاً أن المسافة الضرورية بيننا كأفراد وبين المجتمع تكاد تكون معدومة أو غائبة . فتذوب «الأنا» في المجموع .
هذا لا يعني في المطلق أن الأقوال المتداولة، أو البديهيات كلها خاطئة، ولكنه يعني تحديداً أنه في قلب هذا النسيج المحكم الحياكة من البديهيات ثمة الكثير من العناصر التي تسوق كما لو كانت أمراً مفروغاً منه، من دون الأخذ بالاعتبار أن الزمن نفسه وسيرورة الحياة يقذفان بالكثير من الأحكام من دائرة القيمة المطلقة، النهائية إلى مدار الشك، حين تفقد شرعيتها التي كانت لها في زمنٍ سابق.
يحتاج المرء إلى فضائه الخاص الذي يمكنه من وضع كل بداهة موضع المساءلة، عله يـكـتشف أن لـيس كل البديهيات هي بديهيات.