لا أذكر الآن اسم من قال مرة إن التاريخ يسخر من الذين يسخرون منه. ولكني قرأت للباحث والمؤرخ اللبناني نخلة وهبة عبارة مشابهة يتحدث فيها عن سخرية التاريخ ممن لم يجيدوا التعامل معه.
والعبارة وردت في حديث عن التاريخ من حيث هو علم لا من حيث هو وقائع: حروب ومعاهدات واتفاقيات ونشوء أو انهيار دول.. الخ. كانت صحيفة قد طلبت من نخلة وهبة أن يشارك في ملف يعده ملحقها الثقافي عن «إعادة كتابة التاريخ».
ففعل نخلة وهبة ما يفعله أي باحث صارم لا يركن إلى اليقين وإنما يغلب الشك والسؤال الدائم. أمسك الرجل بعنوان الملف المقترح وراح يُشرحه عمودياً وأفقياً، ليرى أصلاً ما إذا كانت الفكرة مدار البحث تستحق أن تكون أصلاً مداراً للبحث.
وبدءاً من السؤال الذي يقول: هل ينبغي إعادة كتابة التاريخ، وهو سؤال مستوحى من عبارة شهيرة للفيلسوف الألماني غوته فحواها: أنه ينبغي إعادة كتابة التاريخ من وقت لآخر. لكن نخلة وهبة لم ينسق وراء اسم غوته اللامع ولا وراء عبارته التي تبدو جذابة: «أنا لا أوافق على عبارة غوته ليس إدعاء بأنني أوازيه معرفة أو فكراً، بل انطلاقاً من حرصي على عدم الانبهار الآلي باسم المفكر قبل تقييم فكره وإبعاد احتمال التأثر بوهج شهرة الكاتب عند قراءة إنتاجه».
إنه لا يوافق على وجود تاريخ واحد قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً ولكنه يبقى واحداً على كل حال، فإذا اعتبرناه صحيحاً حافظنا عليه وإن رأينا بأنه خاطئ أعدنا كتابته أو صححناه، ولكن في جميع الأحوال أبقيناه وحيداً فريداً. مثل هذا التاريخ لا يوجد إلا في الكتب المدرسية ويكون مادة للامتحانات لأنه التاريخ الذي اختاره النظام التربوي وعمل على نقله للطلبة.
ثم إنه لا يوافق على أن التاريخ يمكن أن يكون خاطئاً ويمكن أن يكون صحيحاً، فالتاريخ ليس هو الأحداث، إنما هو تأويلها بعد ربطها ببعضها البعض، وتختلف التأويلات للحدث الواحد بقدر ما يتمكن المؤول من تصور شبكات علاقات جديدة بين المتغيرات.
الخلاصة أن التجسيدات المتعددة لمقاربة أحداث التاريخ كانت موجودة وستظل دائماً. لكن ثمة خلاصة أهم: الأجدى أن نهتم بصناعة التاريخ بدل هدر الوقت والمال في تأمين «مكياج» للتاريخ المصنوع بغيابنا أو بعد تغييبنا.