كثيرا ما تناقلت الأقلام المثل الشهير نسمع جعجعة ولا نرى طحنا ’ ولكننا اليوم سنحاول قلب المثل من على قدميه إلى رأسه لنقول نرى طحينا ولا نسمع جعجعة ’ واعتقد أن ذلك مقارب إلى حد بعيد مع شرائح ومؤسسات كثيرة وأفراد يعملون بصمت ويمضون لمشروعهم الجماعي والمؤسساتي والفردي أو الشخصي دون الحاجة للمرور إلى عناوين وباقات ورد بلاستيكية بلا رائحة ’ فهناك ظاهرة بدت في المرحلة الأخيرة من زمن الإصلاح والانفتاح ’ بروز ظاهرة التضخم والانا الفارغة والثرثرة المجانية ’ والمغالاة في جوانب عدة ’ إلى جانب حالة النفاق الاجتماعي والخمول السياسي ماعدا تلك الأصوات النيرة والنشطة دائما من اجل تمتين حالة الوضع وتصويب مساراته عبر المؤسسات القائمة ’ بدلا من الاختباء خلف المدرسة القديمة ’ حيث يقف الفرد منتقدا طوال يومه ’ فيما نرى الماء يتحرك من تحته والحياة تأخذ مسارها اليومي ’ حيث بائعو الكلام يظلون سماسرة للماضي ’ ويسقطون في متاهات التخبط والمراوحة ’ ورفض كل ما هو قائم وما هو ممكن ’ وما هو مستحيل أو حقيقة. الظاهرة السوقية في المزاد الكلامي قائم دائما طالما أن هناك أصواتا متعددة في السوق ’ سياسية كانت أم اجتماعية أو إعلامية’ المهم إنها مزدانة برونقها البهي وطلعتها الإعلامية المنتظمة .
هؤلاء بائعو الكلام جوقة مستعدة طوال الوقت للدخول في المهاترات والتصعيد والدربكة والتشقلب البهلواني والبهرجة المسرحية المفتعلة ’ مثلها مثل لاعبي السيرك المحترفين ’ الذين يكررون عملهم في كل مكان وفوق كل مسرح ’ هؤلاء جوقتهم أشبه بجوقة المهرجين الفاشلين ’ وهم يعيدون إنتاج عمل مسرحي رتيب وممل ’ المهم أن يذيعوا على الملأ برنامجهم التمثيلي في كل محفل اجتماعي ويروجون بضاعتهم الكلامية حتى وان كانت في علب فارغة ’ المهم أن تباع للعامة والناس البسطاء . ترى لماذا يعيش في كل الأزمنة مثل هذه الجوقة من الجماعات ’ ولماذا يتم احتضانهم إعلاميا واجتماعيا ’ بل ويسردون لنا جملا من قاموسهم القديم-الجديد مفردات عن الوطنية والإخلاص ’ والتكاتف الاجتماعي والتاريخ المثقوب بتشوهاته المستمرة ’ غير أنهم يعودون لنا بأصواتهم النشاز حول دروس الوطنية . كلنا قلنا كلمتنا للميثاق وقلنا الكثير دون الحاجة أيضا لارتداء جلباب الزفة في يوم جنائزي عن معضلة سيتم قبرها قريبا ’ ولن نسمع بعدها صوت تلك الجوقة’ التي يتم ترويج وطنيتها صباحا ومساء . ابحث ضمن ذلك الطحن وتلك الجعجعة عن الحالة الحقيقية للموضوع فلا المس تفاصيله ’ اقرأ اتهامات عدة مسطحة ولكن لا اشعر بوجودها ’ ففي الوقت الذي تصمت الأصوات الرسمية عن حقها في الدفاع عن مشروع الانتهاكات والتدخلات في قضية ما ’ نجد المجتمع المدني المشوه ’’ المصنوع تحت الطلب وحسب الحاجة ’’ يمارس الفزعة والركض في الفضاء المفتوح ’ ويعلن عن احتجاجه ودفاعه عن تربة الوطن التي كاد الأجنبي أن يدنسها ’ رغم إن التربة وقداستها باتت عزيزة أكثر على الذين ينوون بناء بيوتهم ’ ولكنهم لا يجدونها ’ فنفاذ المواد الأساسية من الأسواق وغلاء سعرها هي الأكثر أهمية للناس من تلك الجعجعة والطحن ’ فسيوف الامبرطور – كما يقولون – في روما ولم تصل بعد إلى المدن البعيدة ’ فيما إمبراطورية لم تغب عنها الشمس تصبح اليوم تحت طائلة الاتهام والدعوة إلى ترحيل أو طرد سفيرها ’ سفير دولة ’’ عزيزة وصديق استراتيجي بالأمس واليوم وغدا !!’’ فكيف حدث هذا الانقلاب الاجتماعي والسياسي الآن ؟ هل هناك دوافع هامة وضرورية للتصعيد مع التاج البريطاني وشمسه الغاربة ؟ وما الذي دفع تلك الأصوات بحمل راية أثقل وزنا من قدرتها على فهمه ؟ اللهم إن الإيماءات البعيدة تقول لنا امضوا بقدر ما تستطيعون من ضغط ؟ قد ينتج حالة مفيدة على كل المستويات ’ فربما ننجح في ’’ تعقيل السياسة البريطانية ’ وترويض فلسفتها القديمة فرق تسد ’ أو نعلمهم الرماية مثلما علمونا الرماية حتى اشتد ساعدنا عليها بتلك الأصوات والنفير المستنفر. بائعو الكلام ومحبوه هم كثر ’ وبائعو الشعارات أكثر وهم لا يتوانون عن خداعنا وخداع الناس في عز الظهيرة ’ المهم أن تجذب الكلمات والصيحات المدوية الشعب المهان في وطنيته !! الشعب الذي يتم تدنيس كرامته ! ’ بتلك الممارسات التي فتحنا بابها حول دروس الدبلوماسية واتفاقية فيينا ’ وسبحان الله كيف تعلم الناس بين ليلة وضحاها جملهم الجديدة القادمة من وراء الكواليس وجوقة تصوغ مفرداتها المهيّجة . بعد مدة سنجد أنفسنا دخلنا السرداب السياسي ’ بتوتيرنا الأجواء والعلاقات ’ حيث النار تحرق الأخشاب والغابات الصغيرة والكبيرة ’ ولحظتها لا ينفعنا السمع والطاعة لأولي الألباب ’ حيث فصول المسرحية تنتهي عند الستارة المسدولة. ويغلق بوابة مسرح من الوهم ويغادر ممثلون من الطين ’ ويختفي سيناريو مكتوب من العبث ’ يحاول التشبث في الفراغ المنهار. دعونا من التصعيد غير المجدي ’ ودعونا نراجع رؤوسنا بهدوء وبرودة متناهية ’ بعدها بإمكاننا أن نشعل حربا كلامية في مستوى الصراع بين بلدين ومملكتين ’’ حمتهم الآلهة من التصدع لزمن طويل ’’ فهل يفسد العطار ؟؟؟ . لعلني أكون مخطئا من إن الموضوع فاق حده المطلوب وحان الوقت للهدوء لمعالجة الأشياء عبر الدهاليز الدبلوماسية وليس المجالس الغاضبة التي تتشبث بتراث الأجداد ’ وصارت البيانات مرعبة حقا ! بحيث لم نر رد فعل مماثلة من المجالس ’’ الوطنية ’’ تجاه ما يهدد اقتصادنا الوطني من حالة تأثيم وتحريم . هل من الأفضل نسمع مرة أخرى جعجعة أم من الأحسن أن نرى طحينا بدونها ؟! .
الأيام 13 أبريل 2010