في انقلاب أبيض، هو من سنن النظام السياسي الإسرائيلي بالمجمل، حكم ومعارضة، نجحت الطغمة المالية والعسكرية والسياسية التي تشكل نسيج الطبقة الحاكمة فعلياً في إسرائيل، في الإطاحة برئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود أولمرت زعيم حزب كاديما المنشق عن حزب الليكود بزعامة مجرم الحرب أرييل شارون، الذي مازال مستغرقاً في غيبوبته، وذلك بواسطة الأداة إياها التي كانت استُخدمت ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي عندما كان رئيساً للحكومة، ألا وهي تلطيخ السمعة والاستدراج لتحقيقات بشأن قضايا فساد متورط فيها تقوده للاستقالة.
فكان أن جاءت الانتخابات المبكرة بزعيم حزب الليكود نتنياهو إياه المتحالف مع أعتى أحزاب اليمين الصهيوني المتطرف مثل حزب إسرائيل بيتنا بزعامة وزير الخارجية افيغدور ليبرمان وحزب شاس الديني.
لقد أُطيح بأولمرت بعد أن اشتمت تلك الطغمة (العصابة) منه رائحة تشي بميله لعقد صفقة تسوية مع سوريا ومن ثم مع السلطة الوطنية الفلسطينية. ولذلك جاء نتنياهو إلى كرسي الحكم في إسرائيل وكله عزم وتصميم على وضع ملف القضية الفلسطينية على الرف والعمل بشتى سبل الاحتيال والضغط الممنهج من أجل بلورة توافق دولي على جعله أولوية ثانوية في سلم اهتمامات وجدول أعمال الاجتماعات واللقاءات والمشاورات الدولية، الثنائية والمتعددة الأطراف. والعمل في الجانب الآخر وبنفس الزخم، على وضع الملف النووي الإيراني على رأس قائمة اهتمامات وأولويات الأسرة الدولية.
والهدف هو إحكام الطوق السياسي والدبلوماسي الدولي على إيران وإظهارها في صورة الدولة المارقة الخارجة على القانون والمهدِّدة للاستقرار العالمي بأسلحتها التدميرية الشاملة، الصاروخية والنووية التي تصر على امتلاكها، بما يوفر المسوغ والمبرر السياسي والأخلاقي لقيام إسرائيل بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية وتدميرها وتخليص المنطقة والعالم من خطر داهم تحرص حكومة نتنياهو على تشبيهه بالخطر النازي على أوروبا والعالم.
كان كل شيء يبدو متسقاً مع ما كانت تشتهي سفن نتنياهو في الشهور الأولى من تسلمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية. فلقد أدار ظهره للآليات الجديدة المستنسخة من عملية التسوية في الشرق الأوسط ومنها خريطة الطريق والتحركات الدبلوماسية المتقطعة للبيت الأبيض واللجنة الرباعية. ومثل ذلك فعل مع خط المفاوضات غير المباشرة مع سوريا الذي أطلقته وأدارته تركيا بالتوافق والترتيب مع سوريا ومع حكومة سلفه إيهود أولمرت.
ولا ريب أن لغة التحدي التي استمرت طهران في انتهاجها والخطابات العنترية التي ما برح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يطلقها بين الحين والآخر لإظهار تمسك بلاده ببرنامجها ومشروعها النووي الطموح، قد سهلت على الحكومة الإسرائيلية ورئيسها نتنياهو، مهمة تحريض وتأليب عواصم القرار الدولي على طهران وتشديد الضغوط السياسية عليها توطئة لإنفاذ حزمة جديدة أكثر صرامة من العقوبات ضدها، حتى إذا ما تم الانتقال إلى المرحلة التالية وهي إقناع الغرب بعدم جدوى العقوبات تكون إسرائيل في حل، من الناحية السياسية، لتنفيذ خطتها بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية وتدميرها، وذلك بأقل قدر من الاعتراضات والتحفظات الأمريكية والأوروبية والدولية.
لكن نزق وحماقة نتنياهو خانتاه وأبتا إلا أن يظهرا في الوقت الخطأ، على جري عادة شخصيته المجبولة على إظهار غطرسة القوة في الانعطافات السياسية الحادة، المعبرة عن فيض نرجسي حاد، وهي نقائص لا تليق بساسة ورجال الدولة على مر العصور، ولا تتماشى مع متطلبات مكرهم ودهائهم وجَلَدِهم وصبرهم. فتشاء نرجسية نتنياهو أن تورطه في ‘اشتباك حاد’ مع سيد البيت الأبيض الجديد: الرئيس باراك أوباما، ولم يكد يمر على تسلمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام واحد، وذلك على موضوع المستوطنات التي واصل نتنياهو وحلفاؤه في التحالف الحكومي العنصري بناءها في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وذهب استهتارهم واستهزاؤهم بالرئيس أوباما وإدارته لحد الإعلان عن بناء 1600 وحدة سكنية استعمارية في القدس الشرقية في حضرة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن!
الآن وقد ‘نجح’ نتنياهو ‘بامتياز’ في توتير علاقاته مع الرئيس أوباما ومع كبار مساعديه في الإدارة الأمريكية، وتسبب في خلق أجواء ‘غير مريحة’ – على غير العادة – لدى إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة في أروقة الحكم في واشنطن، للدرجة التي باتت مسألة كلفة إسرائيل كمشروع قبالة المصالح الأمريكية، تنطرح علناً بما في ذلك في نقاشات وجلسات استماع لجان الكونجرس.. فهل نستطيع القول إن حماقة نتنياهو وعنجهيته قد ‘خربت’ عليه ‘خطته الإيرانية’ سالفة الذكر؟
ربما، ذلك أنه حتى في هذه القضية.. قضية الطموحات النووية الإيرانية، تتغاير المصلحة الأمريكية عن المصلحة الإسرائيلية. ففي حين لا تتصور إسرائيل وجود قدرات نووية لدى إيران يمكن أن تشكل تهديداً لأمنها ولوجودها في المنطقة وهي لذلك مندفعة بقوة لوضع حد ‘لهذا الكابوس’ المؤرق، فإن الولايات لا ترى أن من مصلحتها إضافة جبهة صراع مسلح جديدة إلى الجبهتين اللتين تحارب عليهما وهما الجبهة العراقية والجبهة الأفغانية. وحتى وإن قررت إسرائيل الذهاب للحرب مع إيران بمفردها فإنها تظل بحاجة ليس فقط إلى المباركة الأمريكية وإنما أيضاً إلى الدعم والمساندة الأمريكية، وهذا لن يتأتى إلا إذا تمت تصفية الأجواء بين تل أبيب وواشنطن.
على أي حال في هذه التفصيلة بالذات يقول المفكر الأمريكي اليهودي المناهض للسياسات الإسرائيلية وفاضح جرائم الاحتلال والصهيونية نورمان فنكليستين: ‘أستبعد أن توجه إسرائيل ضربة إلى إيران لأن واشنطن لن تمنحها الضوء الأخضر لفعل ذلك، ولأن إدارة أوباما لن تستطيع تحمل نتائج الحرب من الناحيتين العسكرية والاقتصادية ويداها مغلولتان في العراق وأفغانستان. والولايات المتحدة لا تستطيع المخاطرة بإغلاق مضيق هرمز ورفع أسعار النفط’.
فما بالك في ظل علاقة الشد المتوترة التي تسود منذ بعض الوقت بين واشنطن وتل أبيب!
الوطن 2010-04-10