المنشور

هزيمة اليسار في الانتخابات العراقية


لم يحصل اليسار العراقي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، خاصة الحزب الشيوعي العراقي الجسم الرئيسي العريق لهذا اليسار، على أي مقاعد!
تاريخٌ عريقٌ وبطولاتٌ وتضحياتٌ جسام على مدى عقود منذ أن تأسس هذا الحزب سنة 1934، لم تشفعْ له بالحصول على مقعد واحد، بينما انهمرتْ المقاعدُ على القوى الطائفية والقومية المحافظة القبلية!

نتائج مذهلةٌ مخيبةٌ، لكنها تعكسُ تاريخاً مليئاً بالصراع الاستقطابي الحاد، الذي بدأ بين الشعب العراقي والاستعمار البريطاني، وواجهته النظام الملكي.
إن التناقضات التاريخية في عقود القرن العشرين الأولى بين الاستعمار والاتحاد السوفيتي، انعكستْ على مجملِ الصراعات العالمية، وكانت الفصائلُ المؤيدةُ لرؤيةِ السوفيت في الاشتراكية والتغيير الدولي، قد دخلتْ في صراعاتٍ استقطابية ضارية ضد الأنظمة.

موقفان ايديولوجيان يعكسان صراعاً رأسمالياً ذا مستويات مختلفة، وقد تبدى شكلاً كأنهُ صراعُ الاشتراكية والرأسمالية، لكنه كان في الحقيقة صراعُ التجاربِ الرأسمالية الوطنية في العالم النامي، ضد الاستعمار المانع لتطورِها واستقلالها.

وكان إدخال هذا الصراع من الطرف العراقي تحت هذه المظلة الايديولوجية قد كلفَ الكثير من استنزافِ قواها في معارك سياسية وايديولوجية طاحنة بين تشكيلاتِ اليسار نفسها وبينها وبين تشكيلات البرجوازية الليبرالية والقومية والجماعات الدينية في العقود التالية للثلاثينيات خاصة.

واستطاع الحزب الشيوعي العراقي بتلك التضحيات الكبيرة والمثابرة و(المساعدة) من الاتحاد السوفيتي أن يتحولَ إلى التنظيم السائد بين القوى السياسية الشعبية.
لقد اشتغلَ بقوةٍ على تصعيدِ نموذج الاشتراكية، بتلك الرؤية غير الدقيقة لمسألةِ الاشتراكية، وهي ليستْ سوى تأييدٍ للرأسمالية الحكومية الشرقية، وعدم معرفة جذورها وإشكالياتها، وقد ظهر ذلك واضحاً في عدم حسم الرؤية باتجاهِ تشكيلِ مجتمعٍ رأسمالي ديمقراطي تحديثي، وبالتالي بضرورةِ تجميعِ القوى كافة خلال تلك العقود الاستنزافية من الشهداء لتجربةٍ مغايرةٍ هي الديمقراطية غير (الاشتراكية) الشمولية تلك.

وبالتالي فإن سلسلةً كبيرةً من الأخطاء تجمعتْ وتكشفتْ وانفجرتْ عبر الصراع مع البعثِ وبالتحالف معه خلال تشكيله الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية التي صارتْ دمويةً بشكلٍ كلي وساندها (السوفيت) أنفسهم! فكأن الدكتاتوريةَ الروسيةَ المؤيدة من قبل الحزب الشيوعي قد تجسمتْ في العراق نفسه، وغرزتْ أسنانَها الضاريةَ في لحم اليسار!

إن عدمَ قيامِ الحزبِ بتنميةِ العناصرِ الديمقراطيةِ الجنينية في الثقافةِ والسياسة والحياة الاجتماعية العراقية، بل كرس نقيضَها في الدكتاتورية، ارتدت عليه وهو يحملُ أحلامَ البسطاءِ والعمال والفلاحين في التغيير للحصول على قوتهم وحقوقهم وثرواتهم المضيعة بين القصور والحروب وجماعات الحكم العنيفة!
إن هذا التاريخَ الطائفي المحافظَ الراهنَ هو نتاجُ التاريخِ السابق القافزِ على الظروفِ والمتجاهلِ للموضوعيةِ والخصائصِ الشعبية البسيطة.

إن المراهقةَ السياسيةَ في زمنٍ ماضٍ تتحولُ إلى عقابٍ سياسي في زمنٍ آخر حاضر، من قبلِ هذا الشعبِ نفسهِ الذي لم يُفهم، وتم تجاهل مستوياته وشبكاته الاجتماعية المحافظة وسيطرة الحكوماتِ المتخلفةِ ورجالِ الدين الأميين إسلامياً عليه. والقفزةُ الفارغةُ للامام تتحولُ إلى قفزةٍ مؤلمةٍ للخلف!

إن الشعبَ ليس كتلةً صماء، يتجرد خارج التاريخ، بل هو تكويناتٌ تتبدلُ مع تطورِ الحياةِ وأساليبِ الإنتاج والعيشِ والثقافةِ، وإذا لم تكرسْ فيه تلك التكوينات الديمقراطية الجنينية وغرست فيه تكويناتٍ دكتاتورية، فستكون أنت أول ضحاياه!

لقد كان النظامُ الدموي السابق هو التتويجُ الهائلُ لبذورِ تلك الدكتاتوريات المتعددة، وقد أطلقها إلى عنانِ السماء، وفتت الخريطةَ العراقية إلى فسيفسائها الطائفية وأعادها لعقود طويلة للوراء.

كان الوقوف ضد النظام السابق وهزيمته ضرورة بقاء لشعبٍ سُحل، لكن الديكورات الديمقراطية الغربية تبقى مثل الديكورات الروسية الاشتراكية، إذا غدت مجرد مناورات بين النخب السياسية، والتلاعب داخلها لا يشكلُ ديمقراطية حقيقية كما حدث في البداية، من دون العودة للشعب، والنضال معه، وتغيير ظروفه الصعبة، وبالصراع مع الأقليات الطائفية الاستغلالية المتخلفة، والوطنية والعلمانية والديمقراطية هنا لا معنى لها إذا لم يفهمها الشعب، ويلمسها بيديه ويرى كوارثَ الاقليات الطائفية ومشروعاتها التفكيكية، التي سوف تلتهمُ المواردَ المحدودةَ للعراق المريض أصلاً، وإذا لم يقم هذا الشعب نفسه بالعمل المشترك لحمايةِ بلده ومصالحه وتقدمه.
هذا يحتاج إلى يسارٍ غير يسار الصالونات، والحامل لصورِ الشهداء دائماً، في تعبيرٍ عن الماضويةِ الإمامية المحافظة، وعن الكسل السياسي، وتضخم الشحم البرجوازي في العظام العمالية، ولغيابه عن الشباب، وعن الوطن.

الانجازات الانتخابية هي ثمرةٌ للعلاقاتِ مع الناس، ولازدهارِ العقلانية والإنتاج الفكري في خلايا الأحزاب، ولا تأتي من الهواء أو من الماضي العظيم!.
 
أخبار الخليج 9 ابريل 2010