إن نضالات المفكرين والمثقفين والكتاب والصحفيين، بأفكارهم وأقلامهم.. هي نضالات من أجل التغيير والتحديث، نحو النهوض بالمجتمعات الإنسانية على وجه البسيطة.. ولعل نشر كلمة النقد الإيجابية البناءة، والتعبير عن الآراء الحرة المستنيرة.. هي جميعها تعكس أداة للتقدم والتطوير، ومنظومة للبناء والتشييد.. بقدر ما تمثل دواء ناجعا لعلاج الخلل وسد النواقص والثغرات.. بحسب ما تعبر هذه الأفكار المستنيرة لمختلف الإنتلجنسيا من أصحاب الرأي والضمير، وخاصة منها الملتزمة، عن المعارضة السياسية المتماسكة الناضجة، والجدلية العقلانية.. هذه المعارضة، بطبيعة الحال هي التي تحث الخطى ببرنامجها السياسي الواضح الرؤى، ليس من أجل تطوير المجتمع وحصوله على حقوقه السياسية والمدنية والاجتماعية فحسب، ولكن أيضا من أجل تحديث وتطوير الدولة بمختلف مرافقها ونوعية تشكيلتها وتركيبة هياكلها، بقدر النهوض بالسلطة السياسية، كجهاز منفذ من أجهزة هذه الدولة المدنية الحديثة، التي محورها فصل السلطات الثلاث ومبدأ تداول السلطة، وركائزها انسجام (الرأيين الشعبي العام والرسمي الخاص) وتفاعل البنيتين (الفوقية والتحتية) تفاعلا ايجابيا.. الأمر الذي يدفع بـ (السلطة السياسية) الى ايمانها بالمعارضة السياسية، والأخذ بآرائها ومشورتها، كشريك حقيقي في صنع القرار السياسي.. مثلما يتم الأخذ بآراء السلطة السياسية، عبر استعدادها، بدورها للتجاوب مع أهداف ومطالب الشعب، ضمن (الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية) من خلال (دستور عصري وحضاري) يمثل العقد الاجتماعي التعاقدي ما بين (السلطة والشعب).
إن مبعث هذه المقدمة، هو رغبتنا التطرق إزاء ما طرأ من بعض التغيرات في الآونة الأخيرة على المواقف السياسية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وما يتمخض عن هذه التغيرات، من إعادة الحسابات والاعتبارات لسياسة الحزب الحاكم، حول التعديلات الدستورية وخاصة فيما يتعلق بالتنظيمات السياسية ومبدأ التعددية الحزبية.. ولعل رئيس الحكومة التركية (رجب طيب أردوجان) قد أكد بصدد هذا الحدث المهم المتعلق بشأن الأحزاب السياسية، هو حينما أعلن في مؤتمر صحفي قائلا: “ان حزب العدالة والتنمية ينوي عرض تعديلات دستورية على البرلمان حول بعض الفقرات فيه خصوصا تلك المتعلقة بطريقة حظر الأحزاب”.
إن هذا التصريح المهم لرئيس الحكومة التركية، لم يأت من فراغ.. كما أن مغازي هذا التصريح ودلالاته لم تقدم على طبق من ذهب، وإنما جاءت انعكاسا لتضحيات الأحزاب التركية الوطنية والتقدمية، التي عاشت وتعايش مخاضا عسيرا الى حد المعاناة الجسيمة.. والأهم من ذلك كله، فان جوهر هذا التصريح قد جاء نتيجة لـ ( الكلمة المنشورة) التي هي أمضى من حد السيف، والتي قد خطت بمداد وأقلام أصحاب الرأي والضمير والكتاب والمحللين (محليا وخارجيا) الذين عبروا من خلال الكلمة عن آرائهم، خلال العامين المنصرمين.. انصهرت بثلاثة أسباب محورية:
لعل السبب الأول قد يكمن في تلك الانتقادات الموجهة الى الحكومة التركية، حول تقليصها رقعة الديمقراطية، وإزاء التراجعات الملحوظة في سقف الحريات العامة ومبدأ التعددية، وخاصة بعد أن أقدمت المحكمة الدستورية التركية على حل (حزب التجمع الديمقراطي الكردي) في 11 ديسمبر 2009م، لترسخ حيثيات هذا الحكم، مظاهر العسف في السياسة الرسمية، وخصوصا بعد أن لحق هذا الحزب، حين اغلاقه بـ (26) ستة وعشرين حزبا، ما قبله قد تم الحظر عليهم واغلاقهم بالشمع الأحمر منذ عام 1968م.
أما السبب الثاني، فهو عندما نشرت الصحافة التركية، قبل عام، أي بداية شهر ابريل 2009م مسترسلة: “خسر حزب العدالة والتنمية المرة الأولى منذ وصوله الى السلطة عام 2002م أصواتا في الانتخابات البلدية في 29 مارس 2009م، مقارنة بالانتخابات السابقة عام 2004م بنسبة 7،41%.. وفي الانتخابات التشريعية عام 2007م بنسبة 6،46%”.
وبهذا الصدد، فان المحلل السياسي التركي (روسن شكير) يواصل حديثه خلال مقالته قائلا: “إن اسطورة حزب العدالة والتنمية الذي يزيد عدد الأصوات المؤيدة له في كل انتخابات سقطت ومهمة اردوجان الرئيسية اعتبارا من 30 مارس 2009م ستكمن في وقف سقوطه”.
ولعل السبب الثالث، في بروز التغيير المفاجئ لحزب العدالة والتنمية إزاء التعديلات الدستورية بشأن حظر الأحزاب التركية، قد يكمن في تلك الانتقادات اللاذعة للكثير من (الكتاب والصحفيين والمحللين) والموجهة بشكل مباشر الى المحكمة الدستورية التركية في تبنيها ازدواجية المعايير.. هو حينما رفضت المحكمة الدستورية طلب الادعاء العام إغلاق حزب العدالة والتنمية، أو حله، بالرغم من أن المحكمة الدستورية في الوقت ذاته قد وجهت اتهامها للحزب في شهر يوليو 2008م بأنه “مذنب لكونه يمثل نقطة للأنشطة الإسلامية ومركزا لأنشطة مناهضة للعلمانية” بحسب ما جاء في لائحة الإتهام.
في نهاية المطاف يبقى القول صحيحا: إنه لولا النضالات الدؤوب للمثقفين والصحفيين والمفكرين والمحللين بأقلامهم، في كشف مواطن الخلل ومواقع الثغرات، التي كان يشكو منها النظام التركي، ويكابده الشعب التركي ومختلف الأحزاب السياسية على حد سواء.. لما تجاوبت الحكومة التركية، في إصلاح ذات البين وسد النواقص، ومن ثم تنفيذ مطالب المعارضة الوطنية التركية.. لتؤكد هذه الأقلام بالتالي أن “الكلمة هي أمضى من حد السيف”.
أخبار الخليج 9 أبريل 2010