فجأة تلاشت أصوات المشاركين، غابت الكلمات واستحالت إلى صوت تلاطم الأمواج على الصخور، ربما بما يشبه تلاطمها على صخور جزيرة جدا عندما كانت السجن البعيد. غابت أصوات المشاركين في تأبين مجيد مرهون على جمال ما ألقي في جمعية المهندسين قبل ليلتين، وحضر مجيد نفسه، لا تدري من أين. ولكنه كان يلقي السؤال في وجوه من اقتادوه اثنتين وعشرين سنة ليبتعد عن حريته، على الرغم من أنه يشهد أنه عاش. [1]
كيف لكَ أن تنام قرير العين وهناك من قذفت به في قاع مظلمة كل هذه السنين؟ كيف هفا الإنسان في داخلك ذات مرة – ولا شك مرات أخر – لأن تعتذر لأن تصرفاً صغيراً خانك، وتتجلد مشاعرك أمام الأخطاء الكبرى؟ كيف تمكنت من مناغاة أطفالك وأحفادك بابتسامة صادقة صادرة عن قلب محب، بينما وضعت جدار الحديد بين مجيد (وآخرون) لأن ينعموا بهذه اللحظة؟ أما ضاق صدرك قط وأنت في كل هذه الفسحة، كيف ترى من اتسعتْ صدورهم وهم في كل ذلك الضيق؟ أما أحسستَ بالكدر ذات مساء وأطلقتَ العنان لرجليك أو لدواليب سيارتك تتسكع في الشوارع الخالية من المارة والسيارات وشعرت بهواء نديّ يلفح وجهك ويغرقك بالأكسجين الطازج فتبدو كبريات المشاكل صغاراً، وما يكدّر بالك ينزاح شيئاً فشيئاً.. أما قدّرت أن من يقبعون هناك في زنازينهم لا يملكون سوى أن يغوصوا في ذواتهم ينهشونها، يحفرون فيها أنفاقاً ليروا في نهاياتها ضوءاً ولو على حساب سني عمرهم، يتعلقون في شرايينهم يستخدمونها حبالاً يدلون بها الدلاء في آبار حزنهم ليشربوا منها مجدداً؟ أما وازنتَ بين مواسم اللوز وغربة العيون التي لم يروها؟ أما حدّثتك نفسك عن إحساس مجيد مرهون في العام 1990 وهو يخطو خارج سجنه وقد فاتته السبعينات بعنفوانها، وفوّت الثمانينات بمحطاتها؟ كيف مرّت على جنبيه الحروب، ولم تلامسه خيرات الوفرة النفطية، كيف أغمض عينه عن الوطن في 1968 ليعود يفتحهما عليه في 1990؟ أيُّ غربة وأيّ تيه شعر به وهو يحاول أن يتذكر كيف يصل من مكان لم يعد يعرفه إلى ما مكان لا يعرفه، فقد كان بعيداً عن كل شارع رُصف، ولم يشهد العمارات التي قامت مكان العمارات التي بادت، وكيف غيّر الناس ملابسهم في كل هذه السنوات، وكيف غيروا قصات شعرهم، وكيف صاروا يتحدثون، وكيف تلون التلفزيون، وكيف باتت أغانيهم، وكم بلغت مهور بناتهم.. أما ضايقك العرَق تحت حزام ساعتك ذات ظهيرة وخلعتها متأففاً وأنت تفرك يديك.. هل فكرت في مجيد وهو لا يستطيع أن يحك أو يفرك أو يدلك قدميه النضاحتين بالعرق وهو في سجنه الإنفرادي وقيده الحديدي؟ هل ستقول إن قلبيكما منسوجان من الخلايا نفسها ولهما الإيقاع نفسه، بل ليس للإنسان الواحد قلب واحد، أما سمعت ذاك الخليفة الذي قال «قبل أن أتولى الخلافة كنت أتحرج أن أطأ نملة بنعلي، واليوم يأتيني البريد بقتل جنودي لكذا وكذا نفس فلا يرف لي جفن».. أترى لو كنتَ مكانه سيرهف جانبك ويرقّ قلبك وتسمو روحك؟ أترى لو لبس حذاءك لأصبح طاغية؟ هل جربت أن تتبادل معه الكرسي وتجلس مكانه؟ هل نظرت إلى نفسك من خلاله؟ هل رأيتك بعينيه؟ هل جثم على صدرك ذات منام ما أفاقك مرتعباً: أتراني ظلمتُ مجيداً وغيره وغيره وغيره على مر كل هذه الزنازين والعقود؟ أهي الزنازين فقط؟ أم الذين هم خارجهم جسداً وتزنزنت أرواحهم وكراماتهم؟ أيهما أشد قسوة ومرارة؟ أيهما استطعتَ أن تتلفه وتجعله يعود إلى بيته مهترئاً يتكلف ابتسامة في وجه أطفاله يخدعهم ويخدع نفسه بأنه سعيد، وتسابقه دموع وجع الذل قبل أن يغلق باب غرفته ويسند ظهره إليه؟
على الرغم من الإهمال الذي عاشه داخل السجن وحتى بعد أن خرج منه، والشظف الذي استوى فيه واستولى عليه، وسجونه التي تنقل فيها، وقيوده التي صاغها بدلاً من أن تصوغه؛ يشهد مجيد مرهون أنه عاش، فهو يدري طريقه، وطريقه يدريه، شوك ووعر عسير، وبقيتَ أنتَ، فما طريقك؟
[1] كتيب عنوانه «أشهد أني عشت» يروي فيه مجيد مرهون مختصراً من سيرة حياته.
الوقت 7 أبريل 2010