ما يثير العجب والإعجاب في الديمقراطية الهندية ليس كونها مازالت صامدة بالرغم من مرور أكثر من 60 عاما على استقلال الهند عن بريطانيا وإقامة النظام الليبرالي الديمقراطي القائم على الفصل بين السلطات الثلاث والانتخاب الحر والتعددية السياسية وكفالة الحريات العامة فحسب، بل لكون هذه الديمقراطية قد بنيت وسط مجتمع متعدد الديانات والطوائف والثقافات والأعراق وانشقت أقلية منه عن الوطن الأم عشية الاستقلال لأسباب دينية لتقيم دولتها الخاصة على أسس دينية (باكستان) التي انشقت لاحقا عام 1971 الى دولتين إسلاميتين احداهما باسم الأولى والثانية المنشقة باسم بنجلاديش.
فمن كان يصدق ان مجتمعا كبيرا بهذا التنوع الفسيفسائي العريض من ديانات وطوائف وقوميات وأعراق، وقد أقيم نظامه الديمقراطي على خلفية انقسام طائفي ديني، مازال هذا النظام دعائمه قوية متماسكة ومازال قادرا على إدارة كل تناقضاته الدينية والطبقية والسياسية وفق قواعد اللعبة التي أرساها منذ ستة عقود ونيف؟ وبفضل عراقة ومتانة نظامه الدستوري الديمقراطي أضحى – كأي نظام غربي ديمقراطي – يصعب الانقلاب عليه عسكريا أو دستوريا أو التآمر بأي شكل من أشكال التآمر لإسقاطه وإحلال مثلا نظام عسكري أو شمولي بديل أو لتقسيمه وتفتيته الى دويلات أو كانتونات طائفية أو دينية أو عرقية أو قومية.
والمعجزة في الديمقراطية الهندية أنها لم تقم في مجتمع صناعي متعلم وقطع شوطا من الرخاء والتقدم بعد اجتيازه مخاض الولادة من الاقطاع، بل أقيمت وسط مجتمع فلاحي فقير تغلب عليه السمة الإقطاعية وتصل نسبة الأمية فيه الى معدلات مرتفعة، ولعب الاستعمار البريطاني دورا تخريبيا في إعاقة تقدمه ونهب ثرواته.. والمثير للانبهار أيضا أن هذا يحدث في بلد شرقي تربطنا به كعرب أوثق العلاقات وأعرقها منذ القدم ويتشارك ويتشابه معنا في الكثير من القيم والثقافات والعادات، وتغلب عليه إجمالا نزعة المحافظة وفي أحسن الحالات الوسطية في الانفتاح لدى أوساط نخبه المدنية المثقفة أو بتعبير البعض “العلمانية”.
التجربة الديمقراطية الهندية مازالت خارج تناول واجتذاب الباحثين السياسيين والانثروبولوجيين العرب رغم انها ثرية بأسئلتها الكبيرة التي لعل يساعد البحث عن اجاباتها ومجادلة هذه الإجابات التفتيش في مكامن العجز العربي عن ارساء مداميك بناء الديمقراطية، ومن هذه الأسئلة: لماذا نجحت الهند في إقامة نظامها الديمقراطي بالرغم من ان مجتمعها أكثر تنوعا وتعددا في الديانات والمذاهب والقوميات في حين فشلت مجتمعاتنا العربية في إقامة مثل هذا النظام وبررت أنظمتنا كافة هذا الفشل بالخصوصية الشرقية أو الدينية أو القومية كأن الهند لا توجد لديها مثل هذه الخصوصيات؟
لماذا النظام السياسي الاجتماعي الديمقراطي الهندي قادر على إدارة وامتصاص ومواجهة كل المشاكل والهزات التي تصادفه مهما كانت دوافعها ومنطلقاتها: سياسية أم اقتصادية أم دينية أم مذهبية في حين يعجز النظام السياسي في باكستان عن ذلك بل يعاني المسلمون في ظله أشكالا متعددة من التمييز والفتن والحروب المتواصلة منذ تأسيسه غداة الانشقاق عن الهند على أسس اسلامية موحدة متحابة كما أريد له ولم يحدث ذلك؟ وهو ما نعانيه أيضا في كل مجتمعاتنا العربية.
إن نجاح التجربة الديمقراطية الهندية هو أكبر دليل قاطع على أن الديمقراطية إذا ما توافرت الشروط والظروف الملموسة والإرادة القوية بين الفرقاء المعنيين من ممثلي الشعب وحسن النيات ممكن إقامتها في أي مجتمع مهما كانت درجة تقدمه ومهما كان اتساع وتنوع التعدديات المختلفة فيه.
* * *
في الوقت الذي ترفض فيه دول عربية تطبيق نظام “الكوتا” لإتاحة الفرصة للمرأة للوصول الى البرلمان بنسبة من مقاعده لكي لا تكون تحت رحمة استبداد وتدني وعي الذكور في المعارك الانتخابية الذين سيستأثرون بكل المقاعد لا بل سيسخرون أصوات المرأة لوصولهم إلى تلك المقاعد فإن التجربة البرلمانية الهندية وهي تدخل عقدها السابع تثبت نضجها، فمشروع تخصيص ثلث مقاعد البرلمان الوطني والمجالس التشريعية في الولايات للنساء والذي مضى على تداوله في صبر واناة نحو 14 عاما هو في طريقه الآن للولادة بعد ان تم تمريره في مجلس الشيوخ وصادف هذا التمرير مع يوم المرأة العالمي الفائت.
وينطوي المشروع على أهمية بالنظر الى ان مقاعد المرأة في البرلمان لا تتجاوز 10%، ونسبة أقل بكثير في مجالس الولايات. لكن الإشكالية المترتبة على المشروع موضوعيا في حال إذا ما أقر بشكل نهائي تكمن في كيفية ضمان ان يكون هذا الثلث النسائي بالبرلمان ممثلا عن أكبر عدد ممكن من الأقليات الطائفية والدينية في ظل مجتمع، وإن قام نظامه على العلمانية الليبرالية، إلا أن وعيه المجتمعي يغلب عليه الوعي الديني والتقاليد المحافظة، وهذا هو سبب تحفظ ممثلي الأقلية المسلمة عليه.
وبفضل عراقة التجربة الهندية المديدة وما قطعته من نضج في التطور الديمقراطي فإن المرأة تشغل الآن مناصب مهمة في الدولة كرئاسة الدولة ورئاسة الحزب الحاكم حيث تشغل المنصب الأول براتيبها باتيل رئيسة الدولة، في حين تشغل المنصب الثاني سونيا غاندي زعيمة حزب المؤتمر الوطني، هذا بخلاف ما تشغله من مناصب وزارية ومناصب أخرى مهمة في الدولة.
صحيفة اخبار الخليج
7 ابريل 2010