ثمة دروس بالجملة على درجة من الاهمية افرزتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة العراقية التي تؤشر بمجملها الى قرب زوال أو إفلاس نهج التطرف والاستئصال والطأفنة والتكفير من ساحة العمل السياسي العراقي، او على الأقل بدء العد التنازلي لانحساره، ومن اهم هذه الدروس:
الدرس الأول: ان المشاركة الكثيفة في عملية التصويت وعلى الأخص في المحافظات والمناطق السنية التي عرفت بمقاطعتها الانتخابات النيابية السابقة هي دليل قاطع على فشل رهان القوى المتطرفة على ابتزاز سكان هذه المحافظات والمناطق باجبارهم على خيار المقاطعة بحجة انها لعبة امريكية من الفها الى يائها ولن تجني منها هذه المحافظات شيئا، فبعد سنوات عجاف تحت الاحتلال واحتكار السلطة من قبل قوى طائفية اخرى ثبت لسكان تلك المناطق انهم الخاسر الأول من المقاطعة وليس الجماعات المسلحة المتطرفة المهزومة التي خسرت رهانها.
الدرس الثاني: ان ائتلافات القوى الدينية المتنفذة التي فازت في الانتخابات النيابية السابقة مستفيدة في تعزيز وجودها في السلطة من غياب تمثيل فاعل للمحافظات الشمالية والغربية أثبتت بدءا من التحضيرات التي جرت لعملية الانتخابات الاخيرة منذ بضعة شهور عدم تورعها عن استخدام مختلف الاسلحة التي تحت يدها، المشروعة منها وغير المشروعة، للتشبث بالبقاء في الحكم بدءا من ابعادها لعدد كبير من المرشحين بذريعة انهم ممن ينطبق عليهم قانون “اجتثاث البعث”، ومرورا بعدم التورع عن استخدام أجهزة الدولة ووسائل اعلامها كدعاية ووسيلة للنيل من خصومها السياسيين في الانتخابات، وليس انتهاء بمطالبة مفوضية الانتخابات باعادة فرز الاصوات يدويا بعد أن مالت الكفة حتى بشكل طفيف لغير صالحهم في المراحل الاخيرة من عملية الفرز.
ولم يتورع ائتلاف “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي عن الرهان أيضا على مخاطبة الغرائز الدينية المذهبية في الجنوب واقحامها بقوة في اللغة الدعائية الانتخابية، ناهيك عن محاولة اعادة نكء جروح واحزان عشرات الالوف من العوائل المنكوبة من النظام السابق بغير استدرار احزانها واستثارة غرائز ثاراتها السياسية القديمة مجددا بغرض توظيفها للاصطفاف المذهبي والسياسي سواء حول قوائم واسماء ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء، ام حول الائتلاف الوطني العراقي بزعامة عمار الحكيم رئيس المجلس الاسلامي الأعلى، أم حول غيرهما من القوائم الشيعية الصغيرة الاخرى في الجنوب.
الدرس الثالث: لئن صحت المقولة الذهبية ان الارهاب لا لون له ولا عرق ولا دين ولا طائفة، فقد اثبتت تجربة ائتلاف الاحزاب الدينية بزعامة المالكي في السلطة ان الفساد هو الآخر لا طائفة له ولا راية دينية يستطيع ان يستظل بها.. فقد شهد العراق في السنوات الخمس الماضية اكبر عمليات نهب وفساد من المتنفذين والمسؤولين داخل الحكومة لربما لم يشهد مثيلا لها منذ الغزو الأمريكي عام .2003 وبالتالي ليس هنالك طائفة تستطيع ان تدعي ان عرقها طاهر من ادران الفساد لا تنجب سوى الوزراء النجباء..
وهذا من احد الاسباب الرئيسية لما لحق بالقوائم والائتلافات الطائفية من شيء من التراجع النسبي.
الدرس الرابع: لعب الوقوف الحازم النزيه المحايد للمراجع الكبار في النجف، وعلى الأخص السيد علي السيستاني، بالنأي بأنفسهم عن ساحة معترك الانتخابات العراقية.. لعب دورا مشرفا في افشال القوائم الدينية في المعاقل الجنوبية لها من الاستقواء ضد بعضها بعضا بتلك المراجع الدينية كما حدث في الانتخابات الماضية، حيث راهن بعضها على زج اسم السيستاني كمؤيد لها لكسب اكبر عدد من اصوات البسطاء من ذوي الوعي الديني الشعبي البسيط، وهذا درس جدير بالاتعاظ لناخبينا ومراجعنا في بعض المحافظات والدوائر الانتخابية في الانتخابات النيابية المقبلة.
الدرس الخامس: وهو من اهم الدروس ويتمثل في النجاح الكبير والساحق الذي حققته القائمة العراقية بزعامة السياسي المحنك والداهية اياد علاوي في المحافظات الشمالية والغربية بوجه خاص، وعدد من دوائر المحافظات الوسطى والجنوبية. ان نجاح قائمة علاوي – التي يغلب على تركيبتها الطيف الوطني والعلماني من كل الطوائف – يبرهن فشل المراهنة طول الوقت وفي المنعطفات الحاسمة على استغفال وتسطيح وعي الناخب من خلال محاكاة غرائزه المذهبية والدينية على حساب اولوية مصالحه وحقوقه المعيشية والسياسية الآنية حتى لو حملها بصدق مرشح لا يتاجر في الدين والغرائز المذهبية. صحيح ثمة مآخذ على قانون الانتخابات وعلى غياب قانون للأحزاب وتحديد سقف تمويل الاعلانات الانتخابية، وصحيح ثمة خروق واشكال من التزوير رافقت العملية الانتخابية لكن كل ذلك لا يرقى الى شكل قلب نتائج الانتخابات رأسا على عقب على حد تعبير المالكي حينما كانت قائمته متقدمة بعد فرز 60% من الاصوات، ثم انقلب على عقبيه وشكك فيها حينما شارفت عملية الفرز على الانتهاء معلنة تقدم قائمة علاوي طفيفا على قائمته.
ومهما يقل عن علاوي وعن ماضيه وعن ادائه السابق في الحكومة فإنه بامتياز هو رجل المرحلة التي يحتاج اليه الشعب العراقي خلالها والتي هو – الشعب – بحاجة ماسة إلى اجتيازها كمرحلة صعبة انتقالية.
ولقد اخطأ اليسار العراقي في حساباته وتقديراته خطأ جسيما بعدم الانضمام الى قائمة علاوي مما ادى الى خسارته الانتخابية الفادحة.
وما كان يجب ان يدخل وحده بقائمة صغيرة مستقلة ضعيفة مستضعفة بصرف النظر عن وجاهة كل مآخذه على النظام الانتخابي، ثم على النتائج فضلا عن مآخذه على قائمة علاوي.. ففي العمل السياسي ثمة مراحل ومنعطفات لا مناص خلالها من موازنة الامور بدقة لدى الاشتراك في اللعبة السياسية وبمهارة محسوبة حين خوضها على قاعدة ايثار البراجماتية مؤقتا على الايديولوجيا والمبادئ المجردة.. وهذا ما لم يتقنه في تقديري اليسار العراقي جيدا في اللعبة الانتخابية الأخيرة التي خرج منها خاسرا.
صحيفة اخبار الخليج
5 ابريل 2010