المنشور

الرؤية الإسلامية وتناقضاتها

حين شكل العرب التجربةَ الإسلاميةَ المؤسسةَ اعتمدوا على تقاليدهم الاجتماعية، في مركز القيادة بمكة، فكانت الدولة التوحيدية جمهورية شعبية ذات أدوات ديمقراطية جنينية مباشرة، وكان أساسها الاقتصادي ضعيفاً، بسبب اعتمادهِ على الغزو ومورده، وهو أساسٌ غيرُ إنتاجي، بل يقومُ على مصادرةِ مواردِ إنتاج، مما وضع أول المشكلات الاجتماعية الكبرى التي لم تُحل.
وبتحول الغزو إلى عالم الفتوح الواسع تنامت تلك الطفيلية المتوارية واتسعت اتساعاً هائلاً، خاصة بعد التغلب على تلك الجمهورية وأدوات رقابتها وتشريعها، وانقلبَ النظامُ رأساً على عقب.
إن اقتصاد (العدالة) أي التوزيع العقلاني للفيض الاقتصادي، والمقام على الحروب يؤدي إلى نقيضه، إلى التوزيع غير العقلاني وظهور الملأ الجديد، أي الارستقراطية الباذخة، لأن الحروبَ تؤدي إلى تسريع التاريخ الخطير وتضخيم سلبيات التطور الاجتماعي إلى أقصى درجة، وإلى ظهور الجيش المأجور، والانقسامات الداخلية العربية التمزيقية، عبر مسار حروب الردة ثم حروب الخلافة، ثم حروب الفتوح الإستغلالية ونهب البلدان لمصلحة الخلافة العضوض، فيصيرُ ذلك كله إلى نقيضه، إلى اللاعدالة!
ويصير ذلك كله أيضاً إلى اللاجمهورية والشمولية، وتغييب العقلانية، وصراعات الأقاليم في الجزيرة العربية أولاً، ثم الصراعات في البلدان المفتوحة، وتتحول الخلافاتُ القبليةُ المتواريةُ في الجزيرة العربية إلى مذاهب التطرفِ السياسي، والمزايدة على المسلمين الأوائل، والمزايدة على العرب، ولجوء الأقاليم المفتوحة إلى غلواء الأساطير، بعد أن تاه الإرثُ السياسي في العصبية القبلية المتعالية، وتاهت الثروةُ العامةُ في الجيوب الخاصة!
وفي هذا العالمِ المقلوبِ رأساً على عقب، والمندفعِ للتطورِ والتمزقِ معاً، ظلت الرؤيةُ الإسلاميةُ الحاكمةُ المنبثقةُ عن الدستور النضالي المكتوب وغير المكتوب، في حالات تكون واضطراب، بين التأسيسِ المستمر والتناقض الاجتماعي المحتدم.
في أعمالِ الأئمة والقادة الكبار وهم رمزية الإسلام نرى ذلك التمسك بتلك الثوابت، التي وصلتْ ذروتها في العصر العباسي الأول، ثم تفككتْ وتأدلجتْ وتأسطرت حسب الدول المسيطرة واستغلالها على تعددِها المتلون الحارق وفسادها الموحد.
في الفترة الأولى رأينا ذلك التمسك بحقوقيةِ المال العام، والخلافة المنبثقة عن الإجماع ورفض التوريث، ورفض حروب السلب، وتصعيد العقل لقراءة النصوص الدينية على ضوء التطور الإنساني، والاهتمام بالحريات العامة والخاصة، ثم جاءت الفترة التالية وشكلت النقائض، وتفصيل القيود الدينية حسب مصالح الخاصة المتصاعدة في كل بلد.
في ضخامة التراث الديني خاصة وتناقضات رؤيتيه الأساسيتين، نرى عدم الاكتمال في فقه الحرية الأول، المنقطع، الذي يبدو كحلمٍ بعيدٍ غيرِ مطبقٍ دائماً، ويبدو كنموذجٍ واحد لا يقبل التعددية ولكنه متعدد وكثير وغامض وغير موحد لدى العامة والخاصة المذهبية، لأن الرؤية الثانية النقيض ألقت بعباءتها الصحراوية عليه، ولكنه يتحولُ لدى بعض الباحثين والفقهاء إلى درسٍ يُستخلص منه ما هو جوهري حي باق، ويُستضاء به من أجل نمو الأمم الإسلامية في عوالم الحضارة الحديثة، لأن هذا النمو المتحرر العقلاني المحافظ على مصالح هذه الأمم، وليس المحافظ على قيود البعض ضد العامة والنساء، هو السبيل لدمج تلك الأسس النضالية السابقة مع منجزات العصر الحديث، وهو أمرٌ شائكٌ لأنه يتطلب تطور أوضاع هذه الأمم الإسلامية في العيش وفي التقدم وفي ديمقراطية توزيع الثروات سلماً لا حرباً وإغناءً للجمهور لا هدراً، وعدم حرمان الأقاليم والمناطق التي لا تتفق مع العواصم والهيمنة فيها، وإلى تطور العقول في استيعاب جدلية الجمع بين الماضي والحاضر، وهذا الخيار هو خيار الحياة والبقاء!
أما خيار النصوصية الحربية الأعرابية وخيار القوميات المتعصبة ومذاهب الغلواء التي ترى نفسها ولا ترى غيرها، فهو خيارُ الارهابِ والأرياف المحروقة ومشروعات القنابل الفتاكة والتدخلات الحكومية في كل شيء، إنه خيار الادعاء المطلق والحفاظ الكلي على الحروب المقدسة وهو ليس سوى خيار الدمار الزاحف في كل مكان!
استلال خيوط الحداثة والديمقراطية و(العدالة) والعلمانية الإسلامية الأولى وتطبيقها في عصرٍ متجددٍ وبشكلٍ متجدد، هو خيوط الحياة في عالم يمور بالموت!

صحيفة اخبار الخليج
5 ابريل 2010