المنشور

التعاظم والتصاغر !

ما من قيمة في الحياة هي محل تقريض وإشادة كقيمة الحرية، ولكن ما من قيمة مكبلة بالقيود وبالمحاذير وبالمحظورات مثلما هي الحرية: لكن الناس اعتادت السير بمحاذاة الحائط لأنهم اعتادوا الاتكاء عليه ولم يتعلموا بعد المشي الحر في الشوارع الفسيحة برجلين طليقتين، وهم يمشون مطأطئي الرؤوس لأنهم اعتادوا أن تكون السقوف واطئة، وأن رؤوسهم دقت بما فيه الكفاية بهذه السقوف حتى أصيبوا بالدوار، فلم يعودوا يعوا مواقع الجهات الأربع، ومع الوقت نشأت في دواخلهم سيكولوجيا العبد وهم الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
وحين نتذكر تلك النصيحة الذهبية التي أطلقها أحد الكتاب: «احذر الإنسان الذي يشعر أنه عبد، فلسوف يريد أن يجعل منك عبداً»، نشعر بأن ماء بارداً صب على رؤوسنا، لأننا إذ ندرك في قرارات أنفسهم أننا لسنا أحراراً، نمارس التسلط على من نظنهم أدنى مكانة منا، انظر إلى الرجل المستلب في عمله أمام مديره أو مسؤوله المباشر. وتأمل كيف يتصرف في بيته كطاغية، فتعجب كيف تجمع الناس بين شخصية الطاغية وشخصية الخنوع، في أشبه ما يكون بسيكولوجيا التعويض عن القهر الواقع علينا، بالشكل الذي فصله الدكتور مصطفى حجازي في كتابه القيم «سيكولوجيا الإنسان المقهور».
وفي كتابه الطريف «المستظرف الجديد» ينقل المرحوم هادي العلوي أقوالاً وحكماً من التراث العربي الإسلامي تدلل على أن الوعي بهذا الأمر يمتد بعيداً وعميقاً، فينسب للخليفة الراشد عمر بن الخطاب قوله «ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه». أما أبو حيان التوحيدي فيقول «ما تعاظم أحد على من دونه، إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه».
افتقارنا إلى الحرية كشعور بالانطلاق ينسل عميقاً إلى أدق تفاصيل حياتنا. إنه يمس على سبيل المثال قيمة نبيلة كقيمة الحب.. من يقول إن عواطفنا حرة، أو إننا نعبر عن مشاعرنا حيال الآخرين بشكل حر ومجرد من القيود؟
يذهب ميلان كونديرا، الروائي العالمي المعروف، إلى أنه ليس في استطاعة المرء أن يحدد يقيناً إلى أي مدى تكون علاقاتنا بالغير نتيجة العواطف، لحبنا أو للا حبنا، لعطفنا أو كرهنا، وإلى أي مدى هي محكومة سلفاً بموازين القوى بين الأفراد. وهذه الملاحظة الدقيقة إذا كانت تصح على البشر جميعا بصرف النظر عن انتماءاتهم وأعراقهم، فإنها تصح بمقدار مضاعف على مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية «تشيىء» فيها كل شيء حتى العواطف.
إن طيب الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يتجلى بكل صفاء وحرية إلا حيال أولئك الذين لا يمثلون أية قوة، والقوة هنا مأخوذة بمعناها الشامل وتجلياتها المختلفة التي تتوغل في أصغر الخلايا وتندس في أدق الشرايين.
 
صحيفة الايام
5 ابريل 2010