اشتغل الباحث سلامة كيلة (مواليد بيرزيت في فلسطين 1955) على تقديم شروحات تركيبيّة للماركسيّة. كان يحاولُ دائماً إعطاء تلك الرّؤية الواقعيّة للاتجاه اليساري، من غير أن تأخذه الصّيحات أو الصّرعات الجديدة، وهو لذلك قدّم أكثر من قراءة نقديّة للتأويلات اليساريّة التي عمِدت، بحسب رأيه، إلى إجراء معالجات مغالطة في إطار الغزل الأيديولوجي وتقليد الآخرين.
تكشف أعماله أنّه من البارزين في تمثيل خطّ يساري عربي شديد الانتماء إلى المدرسة الماركسيّة، ولكنه ضليع أيضاً في قراءة التقاطعات الجارية وتركيز الاهتمامات النقديّة الموازية. في هذا الجزء من الحوار، يتحدّث كيلة عن القراءة الماركسيّة للدّين، مقدِّماً توضيحاً خاصاً بهذا الشأن، ومعلّلاً عدم إمكان اللّجوء إلى الخصوصيّة فيما خصّ الإسلام، رغم أنه يُسجّل نقاطاً إيجابيّة له على مستوى التاريخ والتوظيفات المعاصرة. كما يتطرّق الحوار إلى مسألة لاهوت اليسار التي يرفضها كيلة رفضاً تاماً، ويؤكّد عدم الحاجة إليها في السياق العربي الرّاهن.
الماركسية ليست ضد الدين.. و«لاهوت التحرير» وهمٌ لا حاجة له
سلامة كيلة في حوار مع ” الوقت” :
أجرى الحوار نادر المتروك
* يجري الحديث عن قراءة ماركسيّة للدّين، تختلف عن تلك التأويلة المسبقة التي تروج في أوساط الدّينيين بعنوان «الدين أفيون الشعوب». كيف تقدّمون المقاربة الماركسيّة للدّين عموماً؟ وهل يمكن القول إنّ ثمّة خصوصية للماركسيّة «العربيّة» في هذا الخصوص؟
– لا أدري هل يجري الحديث هنا عن قراءةٍ ماركسيةٍ منجزة للدين، أم أنّ الأمر يتعلق بالسّعي إلى تحقيق قراءةٍ ماركسية للدين تختلف عن/ وتتناقض مع الأفكار التي تروج حول أنّ «الدين أفيون الشعوب» ونقطة! على كلٍّ، ما يمكن قوله هنا هو إنّ الماركسية ليست نظرية مضادة للدين، أيّ أنها لا تساوي الإلحاد الذي هو في تضادٍ مع الإيمان، بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكلّيته. وهي تنطلق من أساسين؛ الأول هو أن الوجود هو الأساس، وبالتالي فإنّ الواقع هو الذي يُحدِّد الأفكار والتصوّرات، والثاني: هو أن الوجود في صيرورةٍ مستمرة تتحقق في صيغةٍ جدلية. وهذا ما جعلها تحاول تفسير الوجود بما هو وجود، أي من داخله، وتحليل صيرورة تطوّره بما يفضي إلى تحقيق ما يخدم البشر أنفسهم.
وبالتالي، فقد نظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع. ولهذا ترى أن هذه مسألة تاريخية يمكن أن تبحث في سياق البحث التاريخي. أما في الواقع القائم؛ فإنّ ما يهمّ الماركسية هو كيفية تحقيق تطوّر المجتمع في سياقٍ يخدم البشر، من حيث العيش والتعليم والعمل والرفاء، وفي هذا لا ترى أن صداماً ضرورياً مع الدين هو أمر محبّذ، لأنها لا ترى من ضرورةٍ إلى لمس عقائد البشر، أو فرْض ما يحدّ من قناعاتهم. وأنّ صدامها الأساسي سيكون مع القوى التي تُسيّس الدين لخدمة مصالح طبقيةٍ محدّدة. وصدامها هنا هو مع الطبقي السّياسي، وليس مع العقائد الدّينيّة التي تُترك لقناعات الأفراد. الصراع هنا هو صراعٌ بشري بشأن خيارات طبقيةٍ وسياسيّة، وإنْ كانت بعض القوى تحاول تغليفه في ثوبٍ ديني.
الوعي الديني وصارع العقلانية
* وما موقف الماركسيّة من العلمنة؟
– الماركسية تتبنّى العلمنة؛ لأنها تميّز بين المعتقد الشخصي والمشروع الطبقي السّياسي، وبالتالي تضع حداً لاستخدام الدّين في السّياسة، لكنها لا تُلغي الحقّ في تبنّي أيّ معتقد. هذه رؤية «تقليدية» عامة في الماركسية تنطلق من التمييز بين الحقّ الشّخصي والمشروع المجتمعي. لهذا فهي تخوض الصّراع ضدّ كلّ الأفكار والتيارات التي تعوق التطوّر، وتدعم الطبقات المسيطرة المستغِلّة. وهو أساسُ صراعها مع التيارات التي تنطلقُ من الدّين باعتباره أيديولوجيا.
* تلك عموماً النظرة الماركسيّة للدّين، فما النظرة إلى الإسلام خصوصاً؟
– فيما يخصّ التصوّر بشأن الإسلام، فأشيرُ أولاً إلى أنه ليس من خصوصيةٍ ممكنة، حيث إنّ الأمر يتعلق بقبول سطوة طبقةٍ متلحّفة بالدين، لكنها تحقق مصالحها الدّنيويّة أو رفضها والصراع معها. ولاشك في أنّ كلّ دينٍ لعبَ الدّور ذاته في التاريخ العالمي، وتحوّل إلى أيديولوجيةٍ لمصلحة طبقات، واستغلّ في الاضطهاد وتبرير النّهب والقتل. ووَصلَ الوضع إلى لحظةٍ تفرض الفصل بين الدين والدولة. والإسلامُ ليس خارج هذا السّياق، بل إننا نشهدُ كيف أنه في جوهره هو كذلك. وبالتالي لا يجب أن نلتفّ حول الموضوع بالحديث عن الخصوصية.
* ولكن الإسلام، من الناحية التاريخيّة، أسهم بإيجابيّة في حياة العرب، وبالتالي لابد أن ثمّة خصوصيّة لهذا الدّين؟
– طبعاً، لقد لعب الإسلام دوراً تاريخياً مهماً في صيرورة تطوّر العرب، وفي التاريخ العالمي، لكنه لعب ذلك باعتباره مشروعاً طبقيّاً سياسيّاً استند إلى عقيدةٍ دينيّة. لكن طابعه الدنيوي تحوّل على إثر الانهيار الذي أصاب الإمبراطورية إلى تصوّرات مبسّطة ساذجة وأسطورية، وأصبحت الرؤى التي سادت في ضوء التصوّر الذي طرحه الإمام أبوحامد الغزالي مجرد جملة طقوس بسيطة، من دون عقل أو معادية للعقل. فقد رفض الغزالي كلّ مجالات العلم والفلسفة، وحَصَر «العلم» في «علوم الدين»، التي هي النصّ واللغة العربية والحساب (تعبيراً عن التجارة). وبهذا سادَ باعتباره وعياً عامياً يتكئ على أوليات من الدين. والأخطر هو أن هذا «الوعي الدّيني» بات في تناقض مع الفكر والعلم.
وأصبحت «المؤسسات الدّينية» تُعيد إنتاجه، وتُصارع كلّ ميل عقلاني. وهذا ما تبلور في تياراتٍ سياسيّة تسعى إلى تكريس الماضي، وتعمل من أجل شطب تطوّر هائل تحقّق منذ انهيار الإمبراطورية العربيّة الإسلاميّة، وتكريس ليس حتى ما ساد في الإسلام في أوج عظمته، حيث التطور العلمي والفلسفي، بل ذلك «الوعي العامي» الذي يتكئ على الفتاوى التي تقوم على القياس على ماضٍ سحيق. والأهم هنا هو أن هذه التيارات التي تبدو أنها تهدف إلى إعادة الماضي (والذي يوحي أحياناً بأنها إعادة للماضي المجيد) تميل إلى تكريس الوعي العامي عبر الحرب على كلّ التطوّر الحداثي، لكنها كذلك تكرّس الليبرالية على الصعيد الاقتصادي، الذي يقوم على التجارة بديلاً عن السعي إلى بناء الصّناعة التي هي حاجة ماسة، وهي أساس إيجاد فرص العمل وتطوير الاقتصاد، وتحسين الوضع المعايشي. هنا سنجد أن الماركسية هي في صراع مع هذه التيارات من هذه الزوايا.
الدّين أم السياسة في الحركات الأصولية
* وماذا عن الدّور التحرّري والمقاوم للتيارات الإسلامية، خصوصاً اليوم؟
– ربما هناك منْ ينطلق من الدّور الذي تلعبه الحركاتُ الأصولية سواء في مواجهة الإمبريالية أو حتى في صراعها مع النظم للقول إن الإسلام مازال يحمل شحنة «ثورية» يجب على الماركسيين الإقرار بها. وهنا يصبح التأييد المطلق للمقاومة الإسلامية موقفاً ضرورياً، وحتمياً فيما إذا كانت الماركسية تسعى إلى وعي الواقع. لكن، كما حاولنا الفصل بين الدين والدولة؛ سوف نقول إنه يجب الفصل بين الدّين وتحوّل هذه الحركات إلى قوةٍ شعبية في المواقع التي لعبت فيها دوراً ضد الإمبريالية أو بعض النظم، لأنه ليس الدين هو الذي جعل الفئات الشعبية تميل إلى دعم هذه الحركات، بل السّياسة. بمعنى أن الفئات الشعبية نظرت إلى هذه الحركات من زاوية موقفها من الإمبريالية والاحتلال، والنظم، وليس بما هي حركات تنطلق من الدين. أي أن السّياسي هو الذي فرض هذا الموقف، وليس الوعي الديني الذي يسكن الشعب. وهو الوعي الذي لم يمنع من دعم أحزاب قومية أو ماركسية في العقود الماضية.
لاهوت التحرير.. النشأة الملتبسة
* في الإطار السّابق نفسه، كيف تقدّمون رؤيتكم لمفهوم «لاهوت اليسار»، في إطار الحديث عن إسهامات متبادلة بين المخزون القيمي اللاهوتي، والقيم اليساريّة التحرّريّة؟
– منذ بعض الوقت وتكرار الحديث عن «لاهوت التحرير» مستمر، والمثال هو ما جرى في أميركا اللاتينية، والهدف هو الدعوة إلى تحقيق «لاهوت تحرير إسلامي» للإفادة من «المخزون القيمي اللاهوتي». أظن أن في ذلك خطأ ينتج عن ذاك الميل الذي يحكم «العقل العربي» للنقل عن تجارب أخرى، فهو عقل مقلّد في أحسن الأحوال. أولاً يجب أن نلاحظ بأن حال أميركا اللاتينية هي حال خاصة، قام بها ماركسيون وهم يعملون لتحقيق الهيمنة بمعناها الغرامشي في مؤسسات المجتمع، ومنها الكنيسة. أي ميلهم لفرض تصور يساري طبقي على نشاط الكنيسة، لتفعيل دورها في الصراع ضد الدكتاتوريات. وهذا ما دفعهم إلى إعطاء المسيحية طابعاً طبقياً يخدم الفقراء في الصراع ضد الرأسمالية، ويناهض الاستبداد، والإمبريالية. لكن يجب أن نلحظ بأنّ المسيحية كانت قد تحوّلت إلى معتقدٍ شخصي بعد أن تحققت العلمنة في أوروبا، وتعمّمت في البلدان التي كانت شعوبها مسيحية على صعيد الدين. وبالتالي باتت الكنيسة مؤسسة اجتماعية (ربما نقول مثل النقابة) لا هدف سياسياً لها، لكنها يمكن أن تستخدم لمصلحة الرأسمالية المسيطرة بالمعنى المعنوي، أي عبر تكريس وعي معين يدعو إلى السكينة وقبول القدر الإلهي. وما فعله الماركسيون هو تعميم الوعي المعاكس عبرها من خلال رجال دين ماركسيين.
لاهوت اليسار يخدم الأيديولوجية الأصولية
* بناءً على ذلك، كيف تقرأ محاولة تطبيق لاهوت يساري في واقعنا العربي؟
– ربّما يكون البحث في «لاهوت اليسار» هو ضرب من التوهم الذي يخدم الأيديولوجية الأصولية بدل أن يكون ضدّها، حيث إنّ الصراع مازال قائماً مع هذه الأيديولوجية التي تعمل على فرض ذاتها بوصفها نظامَ حياة وسلطة وتشريعاً، وأيضاً باعتبارها مصالح طبقية لا تخدم سوى الرأسمالية كما أشرت للتو. إن الخطوة الضرورية الأولى هي في تحقيق الفصل بين الدّين والدولة، وهذا يعني التركيز على تعميم الفكر الحديث الديمقراطي العقلاني العلماني، حيث إن الأساس الضروري هو تجاوز البنى والوعي التقليديين والطبقات التي تدعمهما. وهذه العملية هي التي سوف تقود إلى تحقيق ذاك الفصل.
* ما تقييمك للمحاولات التركيبية التي استعلمت اليسار في التحديث أو الإصلاح الديني؟
– طبعاً، ما يجري في الوطن العربي منذ سبعينات القرن الماضي هو محاولة إعطاء تفسير «عقلاني» أو حتى «يساري» للإسلام. وعمل البعض من الماركسيين على تأويل الإسلام في هذا السياق، لكننا لاحظنا أن الأيديولوجية الأصولية توسّع دورها منذئذ، ولم تقُد أية محاولة من هذا القبيل إلى تبلور اتجاه «مستنير»، رغم وجود أفراد مستنيرين. وهذه الواقعة توضّح أنّ الانطلاق من الدّين لإعطاء تفسير مختلف عمّا هو رائج؛ لا يقود سوى إلى تعزيز الأصولية. وأصلاً ليست مهمة الماركسي أن يصبح «فقيهاً» دينياً، ولا يجوز عليه ذلك، لأنه أصلاً ينطلقُ من أسس هي خارج الدّين بالمعنى الأبستمولوجي كما بالمعنى الأيديولوجي، ومهمته هي بلورة وعي حديث ديمقراطي وعقلاني وعلماني، وأيضاً علمي. كما أن مهمته هي تغيير الواقع، ولاشك في أن تحقيق التطور المجتمعي، وإعادة تأسيس التعليم، وتعميم الحداثة، هي كلها الأمور التي تفرض «تحديث الإسلام»، بتحقيق الفصل بين الدين والدنيا.
فشل الماركسيين في الدّور
* إذاً، لا مكان ولا يصحّ إجراء تلك المعالجة التي تمّت في بلدان أميركا اللاتينيّة.
- إننا مازلنا في تلك المرحلة التي أشرتُ إليها قبل قليل، ولا يمكن لنا «تقليد» تجربة أميركا اللاتينية. وليس مطلوباً من الماركسي أن يعمل على تأويل التاريخ الإسلامي لجعله «يسارياً» أو اشتراكياً، وحتى مادياً. ولا تأويله لكي يكون «دين الفقراء» حيث كان يعبّر، وفق ظروفه، عن الميل الأرستقراطي العربي لـ «وراثة الأرض»، رغم كلّ الجمل حول العدل والفقر وغيرها. هذا تاريخ، ويجب أن يُفهم في سياقه التاريخي، وأيّ تجاوز لذلك يشوّه التحليل الماركسي، ويُضعفه. القرآن جاء قبل قرون عديدة وعبّر عن ذاك الوضع، ولا يمكن لأي عبقرية لغوية أن تفسّره بما يخدم المستقبل، وأصلاً في ذلك ظلم شديد. وكما أشرتُ، ليس ميْل الطبقات الشعبيّة إلى الحركات الأصوليّة نابع من الوعي الدّيني، وفق ما يظنّ بعضُ الماركسيين، بل نابع من دورها السّياسي. وفي هذا يجب أن يكون دور الماركسيين، أي دورهم في تقديم برنامج نضال سواء ضد الإمبريالية والاحتلال، أو في مواجهة النظم الكومبرادورية. وأن يطرحوا بديلاً يخدم تلك الطبقات. ثم إن يدافعوا حقيقة عن هذه الطبقات. المسألة ليست مسألة وعي بل مسألة دور وفعل ورؤية، وهذا ما فشل الماركسيون فيه. وهو ما يجعلهم يميلون إلى تفسير ما يجري فيما يتعلق بدور الأصولية بشكل سطحي وساذج.
* في الخلاصة، فإنكم لا توافقون إطلاقاً على لاهوت اليسار، ولا تجدون حاجة إليه؟
– لسنا بحاجةٍ إلى «لاهوت اليسار»، بل إننا بحاجةٍ إلى فعل ثوري لمصلحة الطبقات الشعبية انطلاقاً من وعي حقيقي بالواقع. إنّ أثر تبلور وعي يساري حقيقي، وتشكّل فعل يساري حقيقي، هما أهم من كلّ حديث عن «لاهوت يساري»، وهما سوف يفرضان على الأيديولوجية التي تستند إلى الإسلام التكيّف مع ذلك كما حدث في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن العشرين، حينما تحوّل الحديث عن «اشتراكية الإسلام»، و«اشتراكية أبي ذر»، و«العدالة الاجتماعية في الإسلام».. وهذه كلّها نبعت من «إسلاميين» وليس من ماركسيين، على عكس ما بات يجري منذ السبعينات حينما مال الماركسيون إلى تأويل «ثوري» للإسلام.
الوقت 2 ابريل 2010