أنها سنة انتخابات، تبدو الساحة السياسية البحرينية، على غير العادة، هادئة نسبياً فيما يتصل بتفاعلات وترقبات واستعدادات كافة فرقاء العملية السياسية، وذلك على عكس ما شهدته أروقة الصحافة المحلية والمجالس والديوانيات الأهلية في الأشهر القليلة الماضية من حراك أوحى بحدوث تسخين سابق لأوانه.
ما الذي حدث؟.. هل هو مؤشر على حدوث تبدل في المزاج الشعبي من الحماس للبرلمان والتفاعل مع تجربته إلى العزوف عن التعاطي أو على الأقل متابعة أعمال جلساته وما يدور فيها من مداولات وسجالات.
مما لاشك فيه أن هرولة السادة النواب في أدوار الانعقاد الأولى من الفصل التشريعي الثاني لتفصيل وإخراج نظام امتيازات (تقاعد وخلافه) لمصلحتهم وعلى ‘مقاساتهم’ الشخصية، قد أحدث ردة فعل سلبية من جانب الجمهور تجاه المجلس وأعضائه.
يجيء بعد ذلك انصراف النواب نحو السجالات والمشاحنات الطائفية الجاهلية والولوغ في أوحالها لتزيد الناس نفوراً على نفورهم، حتى قيل إن السنوات الأربع ونيف الماضية كانت أكثر السنوات عجافاً بالنسبة للنسيج الاجتماعي والمجتمعي البحريني، فقد عملت الخطابات المبثوثة سواء من داخل أروقة البرلمان أو خارجه حيث امتدادات ‘روضات’ تلكم الخطابات المسمومة والمشحونة بخزين وفير من الضغائن والأحقاد والكراهية، على إثارة أجواء داكنة ملبدة.
على أن الموضوعية تقتضي منا القول إن أداء المجلس النيابي لم يكن كله سلبياً بالمطلق، وإنما كانت هنالك شذرات إيجابية تخللت بعض المحطات المهمة في عمل المجلس على مدى العام الرابع والأخير من عمر هذا المجلس.
فبعيداً عن كل تأويل وتسبيب يصدر من هنا وهناك بشأن منطلقات ودوافع بعض كتل المجلس النيابي البحريني، فقد شهدت أروقة المجلس جلسات ذاد فيها النواب عن حقوق المواطنين المعيشية والإسكانية والصحية، كما شهد دور الانعقاد الأخير في هذا الفصل التشريعي الثاني أداءً لافتاً، وفي بعض الأحيان مميزاً، للسادة النواب على صعيد ممارسة أحد أبرز أدوارهم النيابية ألا وهو الدور الرقابي، فراحوا يتتبعون أداء المؤسسات الحكومية ويقيِّمون نتائج أعمالها السنوية ويرصدون مكامن اختلالاتها المالية والإدارية ويساجلون السلطة التنفيذية ويصرون من أجل تصحيحها من دون الاكتفاء بما زودهم به ديوان الرقابة المالية من معلومات توضح تلك الاختلالات. حيث اختاروا التوسع في تشكيل لجان التحقيق في أداء عديد المؤسسات الحكومية وخرجوا منها بحصيلة جيدة من الملاحظات والتصويبات المقترحة.
وكانوا قبل ذلك قد أبلوا بلاءً حسناً فيما يتعلق بمناقشة وتحسين بنود الموازنة العامة للدولة 2009 – 2010 قبل إقرارها.
ولقد برز بصورة خاصة دور اللجنة المالية في المجلس التي لعبت دوراً مميزاً في إضفاء النشاط والحيوية على أداء المجلس ونتائج عمله ما رفع من قيمة وسمعة المجلس في عيون الرأي العام وأعاد له بعض الاعتبار الشعبي، وذلك برغم انقياده وتورطه بين الحين والآخر في مطبات طائفية مقززة.
لذا يمكن القول إن أداء المجلس النيابي البحريني في سنته الانتخابية الأخيرة يختلف تماماً وجذرياً عن أدائه في السنوات الثلاث السابقة. بل إن المجلس الذي كان أحد أسباب هبوط الفاعلية المجتمعية والسياسية، والتي تجسدت تراجعاً واضحاً في مستوى الحراك السياسي الذي عرفته الساحة البحرينية على مدى سني الأجواء الإيجابية التي أشاعها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، قد أضحى الآن بمثابة الرافعة الوحيدة المتحركة في ‘المجال الحيوي’ للمجتمع البحريني ومكوناته الفاعلة، فيما يكاد ‘الركود’ يخيم على بقية هذه المكونات التي وإن حرص بعضها على إرسال بعض الإشارات للتذكير بين الفينة والأخرى بوجوده وحضوره ‘الفاعل’ وعدم انقطاعه عن العمل والتفاعل مع مجريات الأحداث الجارية على الساحة، حتى وإن جاء ذلك ضمن الحدود الدنيا من المشاركة الرمزية في عملية الحراك التنموي السياسي.
هذه بلاشك مفارقة، لافتة فالمجلس النيابي الذي كان حتى وقت قريب يغط في سبات عميـق بالنسبة لأولويات عمله الرقـابي والتشريعي الأصيل، قد انتزع، في ‘الأمتار الأخيرة’ -إن جاز التعبير- زمام مبادرة الفاعلية المجتمعية من بقية الكيانات والمكونات السياسية والأخرى المدنية التي وقفت تتفرج مشدوهة على ما تصنعه الكتل السياسية في المجلس النيابي، بما يشمل ذلك تباريها ومزايدتها في المسائل الحساسة التي طالما شكلت جزءاً من نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية الليبرالي الذي بلور الشكل العام للمجتمع البحريني المنفتح على الثقافات والحضارات العالمية المختلفة على مدى المائة عام ونيف الماضية.
وإنه لأمر محيِّر حقاً، فلكأن التيار الليبرالي ذا القاعدة العريضة المعبرة عن المزاج الشعبي البحريني العام، قد توارى فجأة تاركاً الساحة لقوى اليمين الديني تصول فيها وتجول وتفرض أجنداتها الخاصة على المجتمع فرضاً قسرياً، مستغلةً القنوات المفتوحة أمامها للعمل والتحرك بكامل حريتها، ما شجعها على التمادي في إنفاذ برامجها وأجنداتها المعلنة والأخـرى غير المعلنة التي أعادت البحـرين سنوات عديـدة إلى الوراء على مستوى التمـدين والتحديث الذي حققته أجيـال رائعة من أبناء البحـرين منذ ما قبل الاستقلال. وهي -البحرين- التي لم تكن تضاهيها في مستوى الانفتاح واللبررة (Liberalisation) حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، سوى بيروت العاصمة اللبنانية التي كانت مضرب المثل في تقدمية الحضارة العربية وتلاقحها مع تيارات الحداثة والحضارة العالمية.
نعم الكل يسأل أين هو التيار الليبرالي البحريني مما يدور ويتفاعل في الساحة البحرينية، وما قد يحمله من تداعيات وخيمة على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمع البحرين الحديث؟!
قد يقول البعض إن التيار الليبرالي في البحرين منكمش على نفسه نتيجة لشعوره بالإحباط من مشهد تهاوي رموز وعناوين الإنجازات الحداثية وقيم التسامح والاتصال العقلاني بالعالم المحيط، أمام ناظريه، فاختار الانزواء كمداً وغماً.
وهذا، بالمناسبة، في كثير من جوانبه صحيح. إنما لابد من إفاقة.. وإفاقة سريعة قبل فوات الأوان.
صحيفة الوطن
3 ابريل 2010