فتحت نافذة ذاكرتي وغصت فيها وتجولت ’ وتحولت ذاكرة الطفولة ثم الصبا إلى حديقة جميلة بالذكريات ’ فاستعادت الذاكرة كل صورة وحكاية ربما نحن لم نتوقف عندها كثيرا بسبب انصرافنا نحو مشاغل أخرى رغم إننا كنا وفق ذلك الوقت الدافئ نعيش لحظاتها ’ إذ تحولت القصص إلى نوع من الحلم الجميل العابر والساكن في قاع الذاكرة وفضاءتها الرحبة الواسعة . ما أجملها من لحظات وأنت واقف تنتظر خروج تلك البنية من غرفتها أو غرفة البيت لتطل أو تقف ولو قليلا في تلك البلكونة. ومثلما تتنسم تلك الصبية الحلوة بعضا من هواء الحرية في عالم مغلق الأبواب والحركة، كنت أنت سجين تلك اللحظة الآسرة الساحرة، سجين أحلام بخارية ولكنها جميلة عندما ترمي لك بورقة أو احد أشيائها المتطايرة، وكان المنديل « البناتي» ظاهرة مميزة فالأولاد في مجتمع مثل مجتمعاتنا لا يجهل مثل تلك الأشياء وحسب بل ويعتبرها قرناؤه سخرية من سخريات المجتمع الذكوري. والأكثر من ذلك أين نضع المنديل الذي تحول إلى عادة رجال الليل والنساء ولا يصح للصبيان استخدامه حتى وان فرضت علينا لاحقا طوابير المدرسة عادات حضارية جديدة كاستعراض طابور الصباح لنظافتنا وقيافتنا، ولكن المنديل ظل غائبا وعقابه ظل متواصلا حتى عجزت المدرسة عن مواصلة تربيتها وتعليماتها المنهارة في ملاحقة جيوبنا الممتلئة بتلك الأولويات الحياتية من العاب واحتياجاتها لا يمكن للمنديل منافستها. ولكن أن تلقي لك فتاة تقف في البلكون منديلها فذلك تعبير آخر نحو عواطفنا الملتهبة. لكم وقفت طوابير في النهار ملوحة من بعيد أو قريب، وكم تنافس الصبية على صبايا صديقات أو من الأهل وقفن في ظلال ذلك البلكون، المهم أن يتلقف من يقف في الأسفل عطاء من العلى، «وأنت وحظك !» دون أن تهتم بتلك القهقهات، فكل ما تفهمه أنها تعبير عن عواطف دفينة، في وقت حاولن الصبايا استخراج ذلك الكبت الاجتماعي والعائلي من مساحة البلكون.
فهل بدعة بناء البلكون تعبير وخطوة نحو حرية اجتماعية للمرأة أو الأنثى ؟ أم أنها مجرد مساحة هندسية يستمتع، مهندس البناء اختلاقها جماليا في مجتمع ثري اقتنع الأعيان فيه بحق البنات الترويح عن أنفسهن، طالما إننا، يقول التجار والأعيان – إننا نسجن بناتنا داخل البيت. الفكرة ترافقت بين الخلق الهندسي والشعور الاجتماعي والعاطفي للتعبير عن بناء مساحة من الحرية وفق نظام داخلي ما زالت مفاتيحه وأقفاله مستغلقة عند إلام في حالة غياب الأب، ولكن «خلي البنات يروحون عن نفسهم ويشمون شوية هوى» جعلت للحرية متسعا خاصا، فكانت تلك النسمات الغائبة والحاضرة هي اللحظة التي تتطاير فيها المناديل مع العواطف والمشاعر، فكانت شمة شوية هوى تتلازم اجتماعيا مع مفهوم الحرية الجديدة للنساء. فجاءت شمة الهوى في الرحلات « الكشته « حيث الابتعاد في المسافة ولكن خارج المكان وفي ظل قوانين مستحدثة توافقية واسترضائية بين الجميع. تحولت شمة الهوى إلى فسق وفجور في أزمنة أخرى ووضعت حول عنقها الاستحكامات الأمنية والبوليسية من عقول متشددة وغابت البلكون كبدعة تاريخية جاء بها التجار من ربوع فارس وبومبي، فحرمت الفتاة من الوقوف في البلكون وتم بناء جدران شاهقة كقلاع تاريخية! ولكن شمة الهوى ومناديل العشق الجميل ظلت كجزء من أحلام البراءة، ولم تلتفت الى توصيفات أقلية ضاعت في زمننا فلم تكن البلكونة إلا قوة اجتماعية وظاهرة تعبيرية عن تقدم المجتمع نحو الحرية الجديدة. عندما يتراجع الإنسان عن فضاء الحرية المفتوحة يتراجع شكله المعماري وروحه الهندسية، ولكن عندما تنفتح تلك الروح نحو الحرية فان الهندسة لا تصبح مجرد أحجار صامتة وخرساء. البلكونة لم تكن مجرد زيادة أضافية للبناء وإنما امتداد داخلي للبيت نحو الخارج مثلما يتحول الباب والنافذة مدخل للخارج ضمن هندسة المعمار. وتطور البلكون البدعة فانطلق من بيوت عامرة وكبيرة إلى أحياء فقيرة وبيوت عادية في الخمسينات والستينات، بعدها لم تعد حكاية « شمة الهوى» أمرا عسيرا فقد نالت المرأة جزءا أوسع من جلوسها في البيت بانتظار الزوج. لقد حولت المدرسة وضع البنات والأنثى إلى حالة جديدة، باتت مساحة الطريق بين البيت والمدرسة «شمة هوى جديدة» ناهيك عن فضاء فصل المدرسة وحوشها، وغابت عن الفتية تلك الانتظارات الحالمة الجميلة في عالم الحرمان، انتظار الابتسامات والمناديل والإشارات والقبل في الهوى كجزء من شمة الهوى القادرة على حمل الأثير العاطفي المعلن والمكتوم. شعرت بالأسى وأنا أتجول في الأحياء القديمة فأرى بلكونات تاريخية مهملة، فلم يشعر جيل أخر بمعناها ولا دلالاتها، فيما كنت أرى بروحي حكايات مرت كشريط جميل، فما أجملها من عبارات متداولة «خلنا نروح فريج الفاضل، هناك بتشوف بنات حلوات واقفين في البلكون « فيومها بيوت الفقراء والسعف والطين لم تلد بعد حلمها في بناء قطعة من الحجر يطل من الداخل للخارج، وتقف البنت لحظتها لكي تشم الهوى وتشم رائحة الأنوثة الغاضبة والحرية المنتظرة المفقودة. لكل أجسادنا وحركاتنا ومحيطنا الاجتماعي تعبيراته، وللإنسان علاقة بتلك البيئة المتغيرة والمتنافرة، فجاءت البلكونة في لحظة تاريخية كتعبير عن ذلك المتغير الروحي والأخلاقي للمجتمع والمرأة خاصة كجزء من التنفيس لكائن مختنق في داخل الجدران الأربعة، ولابد من إطلاق مجنونه الداخلي المتفجر.
شمة الهوى فضاء جميل محفور في الحكايات والانتظارات الطويلة لفتاة لم تطل ذلك اليوم لا من نافذة البيت ولا بلكونته، فقد رحلت فجأة إلى بلد أخر ليتزوجها ابن العم هناك. ظلت البلكونة خاوية لا قيمة لها، فالمعمار الهندسي بلا حضور إنساني تتلمسه روحا أو جسدا، يبدو كابوسا في حلم مفزع. بكت ليالي رمضان التالية لغياب البلكون من رواده، ولم تتطاير من هناك المناديل المعطرة ولا أوراق مكتوبة بحروف صغيرة هاربة، فما كان علينا إلا البكاء على « أطلالنا / البلكون» كبدعة جديدة عصرية، فلا ليلى من ديارنا ولا قيس العامري من الأصدقاء !
صحيفة الايام
3 ابريل 2010