رحل المناضل والفنان المبدع وصاحب الابتسامة الجميلة – عازف السكسفون الحزين وبقت كلمة «لو».
كتب عنه مؤخرا ومازال الكثير، سواء عن سيرته النضالية وصفاته الشخصية أوعن إبداعه في المجال الموسيقى. وكل ذلك أعاد بذاكرتي عدة عقود للوراء، وبالتحديد إلى أواخر العام 1966 في موسكو عندما وصلت إلى منظمة الحزب الطلابية عبر مسؤول العلاقات الخارجية في الجبهة أوراق الطلبة الجدد المرشحين للدراسة في الاتحاد السوفييتي، ومن ضمنها كانت توصية خاصة على أحدهم بأن نبذل كل جهد ممكن لقبوله للعام الدراسي القادم ليتخصص في مجال الموسيقى وذلك للأهمية.
حينها كنت مسؤول المنظمة الحزبية ورئيسا لرابطة طلبة البحرين، وقد كلفت بمتابعة أوراق هذا الطالب الذي لم نعرف عنه شيئا سوى ما ذكر في النبذة المرفقة بشهاداته بأنه يجيد العزف على عدة آلات وخاصة السكسفون وانه ضمن فرقة موسيقية تشارك في المناسبات المحلية.
وتقدمنا بأوراقه الى وزارة التعليم العالي والتي طلبت ما يثبت بانه يجيد العزف- سواء من مدرسة أو نادٍ أو مؤسسة أو غيره، وذلك حسب النظام المتبع عند قبول الطلبة في معهد الموسيقى. وتطلب منا جهدا لإقناع الوزارة بالظروف الصعبة التي فرضتها السلطات الاستعمارية على الطلبة الدارسين في الخارج، وبخاصة عدم السماح لهم بالدراسة في بلدان اوربا الشرقية. ولهذا السبب لا يمكن توفير ما يطلبونه. وفي النهاية طلبت الوزارة منا الذهاب الى المعهد المعني وشرح الظروف لهم لعلهم يقتنعون ويقبلون به. وبعد لقاءات عدة مع المسئولين في المعهد وشرح صعوبة تلبية شروطهم بسبب الأوضاع في بلادنا وافقوا على قبول طلبنا بشرط ان يجرى للطالب بعد وصوله امتحان للتأكد من إجادته العزف.
وهكذا تم قبول مجيد مرهون في كونسرفاتوار موسكو أحد أشهر معاهد الموسيقى في الاتحاد السوفييتي آن ذاك للسنة الدراسية 1967 . وسررنا جميعا بذلك لأننا أولا حققنا طلب قيادة الجبهة، وثانيا لاتساع إطار التخصصات التي يقبل عليها طلابنا. فالى التخصصات مثل الطب الهندسة الزراعة الاقتصاد التاريخ الحقوق والرسم (الفن التشكيلي) أضيف اختصاص الموسيقى. وبالطبع سارعنا بإبلاغ المسئولين في العلاقات الخارجية بما تم تحقيقه.
وفي العام 1967 ومع بداية توافد الطلبة الجدد الى موسكو طلب منا تأجيل قبول مجيد مرهون الى العام القادم وذلك لحاجتهم له في البلد. وفعلا تم الاتفاق مع الوزارة تحويل قبوله للسنة القادمة، التي مرت سريعا وصرنا ننتظر قدوم عازف السكسفون في العام 1968. ولكن ذلك لم يتحقق حيث تم اعتقاله لتبدأ رحلة الصمود والكفاح والإبداع لمجيد مرهون على مدى ما يربو عن العقدين قضاها وراء القضبان. وعندها فقط عرفنا سبب اعتقاله وسبب إرسال أوراقه للدراسة. وصرنا نردد فيما بيننا بأسف «لو لم يتم تأجيل سفره عام 1967 لما تم اعتقاله وكان التحق بالمعهد».
ومع زيادة معلوماتي عن مجيد مرهون، خاصة بعد إنهائي للدراسات العليا عام 1976 والتحاقي بالعمل في العلاقات الخارجية للجبهة، فان كلمة «لو» بدأت تكبر سنة بعد سنة وبمزيد من اللوعة والألم. وكلما تسربت لنا معلومات من السجن عن تعلمه قراءة وكتابة النوتات وكتابة الألحان وتأليف السمفونيات، وذلك بالرغم من ظروف الحرمان والعزلة وافتقاده لأبسط الآلات الموسيقية، كنا نزداد حسرة وأسف على اعتقاله. فعلا كان موهبة فنية ونبتة ثمينة لم تلقى التربة الملائمة والعناية اللازمة لنموها وتفتحها بكل ما تختزنه من طاقة إبداعية. ورغم ذلك كانت هذه النبتة تحفر في الصخر لتخترق الأرض وتطال السماء وتنمو وتزهر.
ومع ازدياد الحملة التضامنية الدولية مع المعتقلين وعلى رأسهم مجيد مرهون في مطلع الثمانينات واتساعها بشكل واسع في أواسط الثمانينات، وخاصة بعد تسرب نوتاته من السجن وحيث عزفت بعضها من قبل فرقة اوركسترا إذاعة برلين في المانيا الديمقراطية ومن ثم تم اصدارها في اسطوانة في موسكو. وكان ذلك تقديرا وتضامنا مع مجيد مرهون المناضل والفنان ومع كل المعتقلين السياسيين.
لقد حصلت الاسطوانة على استحسان وقبول العديد من المختصين في الموسيقى و أثارت الدهشة والإعجاب عندما علموا أن هذه الألحان كتبت في السجن دون توفر أية آلة موسيقية أو بيئة مناسبة للعمل الإبداعي.
ان ما أنجزه مجيد خلال السنوات الأخيرة بعد خروجه من السجن، خاصة قاموس الموسيقى في عدة مجلدات والذي صدر منه المجلد الأول بدعم من مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة ، يؤكد تلك الموهبة الكبيرة المختزنة الكبيرة لديه والتي لم يظهر منها إلا الشذر اليسير نتيجة قضائه أكثر من عقدين من أهم سنوات عمره في المعتقل. وهنا أستسمج من بعض الأخوة الذين كتبوا أو صرحوا وبحسن نية بأن الفضل في إبداع مجيد يرجع لوجوده في السجن طوال تلك السنوات!! في الحقيقة العكس هو الصحيح فسنوات السجن وأوضاع العزلة والحرمان كانت عائقا أمام تطور وانطلاقة هذه الموهبة الكبيرة.
فلنا ان نتصور مجيد، الذي وبالرغم من تلك الظروف وافتقاده لأبسط متطلبات العمل الإبداعي الفني، استطاع ان ينجز ما أنجز، فكيف لو انه التحق في ذلك العمر بالكونسرفاتوار الشهير في موسكو، هذا الصرح الفني الكبير وإمكانياته المتنوعة من الآلات الموسيقية والتراث الموسيقي العريق الذي يمتد الى عدة قرون وتدربه على أيدي مدرسين اختصاصيين قديرين وعلى أسس علمية سليمة لعدة سنوات و في موسكو مدينة الثقافة والفن والمتاحف المتنوعة الرائعة والمكتبات الغنية بالكتب الأدبية والفنية الخ… بالتأكيد كنا سنرى موسيقارا وملحنا كبيرا من طراز آخر حيث تتحد الإمكانيات العلمية الهائلة مع الموهبة الفطرية الفذة.
لقد خسرت البحرين الموهبة الكاملة المكنوزة لمجيد قبل مماته، وفي رحيله المبكر خسرنا مناضلا وإنسانا وفنانا مبدعا لا يعوض..
ولإعطائه شيئا ولو يسيرا من حقه، فاني أشاطر كل الأخوة الذين اقترحوا ضرورة تكريم المناضل والفنان مجيد مرهون رسميا وأهليا وتخليد اسمه، وبخاصة مقترح الأستاذ سعيد الحمد بتأسيس معهد أو جمعية للموسيقى باسمه لصغار الموهوبين ورعايتهم.