المنشور

التحـدي في التطبيـق ..!


هل سيكون رهاناً خاطئاً اذا اعتبرنا التعليمات التي أعلن عنها ديوان الخدمة المدنية قبل أيام في شأن قواعد السلوك الوظيفي بأنها ستمضي حقاً لكي تأخذ طريقها في إرساء معايير أخلاقية وقواعد ومبادئ أساسية لآداب وانضباطية وشفافية ونزاهة وكفاءة وفاعلية الوظيفة العامة ووقف استغلال المنصب والتطاول على المال العام ومحاربة الفساد وتعارض المصالح في العمل العام وتسهيل المعاملات وتنشيط الاقتصاد .
 
هذه التعليمات ، أو ما يمكن اعتباره مدونة السلوك الوظيفي وأخلاقيات الوظيفة العامة والتي لا نعلم المغزى من توقيتها خاصة وأن لغطاً نيابياً قد جاء بعدها مباشرة حول تقارير ديوان الرقابة المالية للأعوام 2006 – 2007 – 2008 والتي يعلم الجميع حجم وطبيعة المخالفات الإدارية والمالية التي تضمنتها ، هذه التعليمات تهدف إلى تدوين القواعد الأخلاقية  التي تحكم الوظيفة العامة والعلاقة بين الموظفين العامين ومتلقي الخدمة المدنية كمرجعية توضح المعايير والضوابط المتعلقة بأخلاقيات السلوك المهني وآداب الوظيفة العامة وتخليصها من البيروقراطية والروتين والفساد، وهي بالأهداف المعلن عنها نحسب أنها خطوة إيجابية ، بل لابد أن نعتبرها كذلك كونها تسعى إلى إصلاح حال الإدارة العامة بإنسانها ونصوصها وطرقها وأساليبها لجعلها إدارة فاعلة ونزيهة، ولكن يكمن التحدي الأكبر كما هي العادة في التطبيق لا في التنظير .
 
التعليمات الجديدة لديوان الخدمة المدنية وأن جاءت متأخرة خاصة في ظل كوننا ” أعرق إدارة حكومية في المنطقة ” أول ما يلفت النظر بشأنها ، أنها مرت مروراً عابراً من دون أن يسلط عليها الضوء ومن دون أن يشرح أحد أهدافها ومنطلقاتها وسبل الأخذ بمقتضياتها وهي التي تستهدف بلوغ الشفافية والنزاهة ، وحظر قبول أية هدايا أو مكافآت أو عمولات أو خدمات تكون في حقيقتها رشوة مقنعّة ، ومنع تضارب المصالح التي تؤدي إلى تضارب حقيقي أو ظاهري أو محتمل بين مصالح الموظف الشخصية من جهة وبين مسؤولياته ومهامه الوظيفية من جهة أخرى ، والمحافظة على المال العام وكسب ثقة الناس ، واذا ما توقفنا عند الشفافية تحديداً ، واعتبرناها بأنها القدرة على الرؤية عبر الأشياء ، كما عبر الإجراءات والقرارات والصفقات، فإنه بناء عليه يتطلب الأمر أن تكون القواعد والإجراءات التي تنظم عمل الإدارات والمؤسسات العامة علنية بسيطة ومباشرة ومكتوبة بلغة واضحة، كما يتطلب أن تكون مفهومه لدى العاملين المسؤولين عن تطبيقها كما ولدى الناس الذين عليهم الالتزام بها، كما يقتضي الأمر وجوب أن يعرف المواطن ومتلقي الخدمة أين ، ولمن يستطيع إيداع شكواه وإجراءات متابعتها .
 
هذه التعليمات والقواعد الوظيفية الجديدة بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن تشمل كافة مستويات المسؤولية من أقصى الهرم إلى أدناه وإلا تحولت إلى استقواء على الصغار وانصياع لنفوذ الكبار، فالدولة ليست فقط صغار الموظفين ، ولا يمكن لأية قواعد لتنظيم السلوك أن تكون مجدية ومحققة لغاياتها اذا لم تطبق على الجميع واذا لم تكن هناك آليات واضحة لتفعيلها ، واذا لم ترتكز على مساءلة حقيقية التي في الحقيقة موقف يعبر عن حس بالمسؤولية ، والمساءلة هنا لا تقتصر على الالتزام بتصرف مسؤول فقط وإنما بقبول واجب تفسير وتبرير ممارسات محددة اذا ما طلب المواطن أو متلقي الخدمة ذلك ، وإلا ستصبح هذه التعليمات أو مدونات السلوك الوظيفي حالها كحال مواثيق الشرف الكثيرة التي بات جلها عديم القيمة والجدوى والتي رأينا أن أول الداعين لها والموقعين عليها هم أول من اخترقوها وفي الصميم .
 
ولا بأس من وجود نظام للرقابة داخل كل جهة حكومية تكون له صلاحية التحقق من تنفيذ هذه التعليمات الجديدة لقواعد السلوك الوظيفي ، ولابد من الانتباه بأن المطلوب قبل ذلك اقتلاع ثقافة سائدة وبناء ثقافة بديلة تعتمد على الإنجاز والمبادرة والابتكار والسرعة وتقييم أداء الوزارات والمؤسسات العامة التي تتولى تقديم خدمات عامة إلى المواطنين ، والنجاح في هذه العملية يرتكز على حسن التطبيق واحترام مستوى الالتزام مع التشديد على أن هذا الموضوع هو أكبر من أن يكون تقنياً بحتاً ، أو إداريا خالصاً ، أنه في الحقيقة موضوع يتصل بالمعضلات والتحديات التي يفترض أن تكون أكثر من جهة معنية بها .
 
تبقى ملاحظة وتساؤل ، أما الملاحظة فنجدد عبرها التأكيد بأن أي خطوة على طريق إصلاح حال الإدارة العامة ، معالجة وتطويراً وتحديثاً لا تغني بأي حال عن المطالبة مجدداً بالإسراع في تأسيس ديوان للرقابة الإدارية مذكرين من نسى أولهم مصلحة في النسيان أن جلالة الملك هو الذي قد وجه لتأسيس هذا الديوان في خطابه السامي في 16 ديسمبر الماضي تأسيساً على ما نص عليه الميثاق الوطني ، وهذا الديوان يمكن أن يكون من بين تلك الجهات المعنية التي نأمل أن تتعاطى مع الإصلاح الإداري بجرأة والتزام وعلى قاعدة الشفافية والمساءلة .
 
أما التساؤل الذي ينطلق من افتراض جدوى مدونات قواعد السلوك الوظيفي فهو : كم مدونة يا ترى نحن بحاجة إليها ؟ بعض الدول لعل من بينها الأردن التي بدا أن ديوان الخدمة المدنية قد استفاد من تجربته في وضع تلك التعليمات ، هذه الدول أصدرت مدونات ومواثيق شرف بشأن قواعد السلوك الوظيفي للوزراء ، والنواب ، والقضاة ، والصحفيين ، والإعلاميين ، والمحامين ، والمعلمين ، والأطباء ، والمهندسين ، وغيرهم ، فهل نحن بحاجة إلى مثل هذه المدونات للالتزام بمبادئ الشفافية والنزاهة والمحافظة على المال العام ، أم أننا بحاجة إلى شيء آخر نرجو إلا يعني في النهاية أننا نهرب إلى الأمام .. ؟ !!