كانت تباشيرُ نمو الطبقة الوسطى تبدو من النظام الملكي الإقطاعي قبل الثورة، ومع مجيء ثورة العسكريين تزايد من جهةٍ نمو العلاقات الرأسمالية خاصة في الريف، حيث قامت حكومة الثورة بإصلاح زراعي مهم، وكذلك تنامتْ رأسمالية الدولة الحكومية، ثم تغلبتْ رأسماليةُ الدولة بعد تأميم النفط وانصبت معظمُ المداخيل في جيوب البيروقراطية الحكومية المتعددة الأوجه.
(رغم توسع قطاع الدولة الانشائي فان حصته في تنفيذ الاستثمارات الحكومية لم تبلغ 10% وعليه فان القطاع الخاص قد تولى في السبعينيات مقاولات بما لا يقل عن 6 مليارات دينار جنى منها أرباحاً تزيد على المليار دينار وتنطوي على هامش طفيلي كبير)،(تطور العراق، د. أحمد الشيخ ربيعة).
وسواء أكان هو حكم عبدالكريم قاسم أم البعث فإن القوى البيروقراطية الحكومية نمّتْ البرجوازيةَ الخاصة الخاضعة لها عبر المقاولات وأعمال الباطن المختلفة، بحيث غدت القوى البيروقراطية هي المسئولة عن تصاعدِ دور الأجهزة العسكرية والقمع وإلغاء الحريات.
وجاءَ الاحتلالُ الأمريكي عبر فوضى عارمة ولم يدع القوى المحلية هي التي تجهزُ على النظام وتواصل التغيير، فركزَ في تصفية الرأسمالية الحكومية المركزية، وأدواتها الأساسية المساندة من جيش ومخابرات.
لقد انتكس الدورُ الحكومي المركزي، لكن لم تكن ثمة قوى مالية خاصة كبيرة تستثمر الوضع لتطور رأسمالي ديمقراطي وطني، كما قامت القوى الإقطاعية والمذهبية بتفجير الصراعات المختلفة، وضرب القوى المتعاونة مع التطور الجديد، وحدث تخريبٌ ودمارٌ كبيران وهجرة الخ.
بعد هدم رأسمالية الدولة المركزية وتوزيع الفوائض الاقتصادية على المحافظات، في ظروفٍ اقتصاديةٍ اجتماعية بلا ملامح تحديثية، وبلا وجود طبقة وسطى عراقية على طول الخريطة الوطنية، وسيادة الاقاليم المذهبية والقومية المختلفة، وقيام الإدارات المناطقية بالسيطرة على الموارد، والتلاعب في كثير من الأحيان بها، وحدوث فضائح بهذا الصدد كهجوم قوى الدرك الحكومية على البنوك، واستغلال الحكومة المركزية دورها المهم وتنفيع جماعاتها، حدثت الانتخابات الأخيرة وبرزت ثلاث قوى سياسية مناطقية رئيسية هي حكومة المالكي وجماعة إياد علاوي كقوة تحديثية واستمرار القوى الكردية المتنفذة في الشمال.
لقد حدث تكوينٌ عراقي اجتماعي جديدٌ في هذه السنوات القليلة في بداية القرن الواحد والعشرين وهو صعود كتل اجتماعية بلا جذور اقتصادية عميقة سابقة، فملكية الدولة الكبيرة وهي الشريان الأكبر لتشكيل البرجوازيات سواء الحكومية أم الخاصة المتداخلتين في الأنظمة السابقة قد تم قطع عرقه الكبير، ومع ظهور التعددية والصحافة الحرة، توجه المالُ النفطي إلى الخريطة الاقتصادية المُراقبة، وإذا جاءت الفوائض الاقتصادية فهي تأتي من خلال الوظائف الحكومية، في حين تتوجه الأقسامُ الكبيرةُ من الفوائض النفطية النقدية إلى المشروعات العامة.
فكيف تشكلت القوى السياسية الاجتماعية واعتمدت على إيجاد مناصرين وأتباع لها من دون الهيمنة النفطية المالية؟
قامت في العراق الراهن قوى اقتصادية سياسية منفصلة عن الرأسمالية الحكومية المعتادة وقامت على ما يمكن تسميته:(البرجوازيات الخاصة – العشائرية – الطائفية)، وهي تسميةٌ من الأدبياتِ العراقية وتعبرُ عن المنحى الجديد للقوى الاجتماعية السياسية المتنفذة. وهذا الانفصال يحدث أول مرة في التاريخ العراقي الحديث على الأقل، فالدولة المركزية أُزيلت وحلتْ دولةٌ غير مركزية.
والحزبُ المسيطرُ تنشأ سيطرته من خلال وجود المال لديه أولاً، ثم من خلال لجوئه للعشائر ثم يعتمد كذلك على طائفيته.
ثلاثة جذورٍ شكلتْ خريطةَ الانتخابات العراقية الراهنة التي صعدت فيها تلك القوى السابقة الذكر. وبالتأكيد فإن المالَ الكثيف موجود والقوى السياسية المؤثرة موجودة ولكن بطرق مختلفة عن السابق!
صحيفة اخبار الخليج
18 مارس 2010