المنشور

الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي ودور الحكومات والبرلمانات الوطنية

عند الحديث عن الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي أو ما أصبح  يطلق  عليها  بالموازنات الحساسة ،  يصبح لزاما علينا  أن نشير بكل التقدير والاحترام  لأستراليا حيث البدايات الأولى على مستوى العالم التي يتم فيها الالتفات بشكل جاد وعملي لتفعيل فكرة الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي وذلك 


 


الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي ودور الحكومات والبرلمانات الوطنية



ورقة نقدية –
إعداد: عبد النبي سلمان
 


عند الحديث عن الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي أو ما أصبح  يطلق  عليها  بالموازنات الحساسة ،  يصبح لزاما علينا  أن نشير بكل التقدير والاحترام  لأستراليا حيث البدايات الأولى على مستوى العالم التي يتم فيها الالتفات بشكل جاد وعملي لتفعيل فكرة الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي وذلك منذ العام 1984، لتتلوها بعد ذلك مبادرات عالمية عديدة،  ربما كان من بينها مبادرة دول الكومنولث التي التزمت بمساواة النوع الاجتماعي في العام 1991 ثم ما لبثت أن  صادقت عام1995م على خطة عمل تدعو لتطوير هذا المبدأ والذي اعتبرته أساسياً في مجال حقوق المرأة، لتتوالى بعدها اجتماعات  ومؤتمرات مهمة على مستوى دول الكومنولث لوزراء مثل  المالية، والتعليم والصحة والتشريع وشؤون المرأة  وحقوق الإنسان، وقد  استمد هذا التوجه زخمه العالمي لاحقا في مختلف قارات العالم وبدرجات متفاوتة بغية تحقيق رؤية طال انتظارها لعالم تتساوى فيه الفرص  بين النساء والرجال  في مختلف مناحي الفعل الإنساني الخلاق لبناء عالم جديد تكون فيه المرأة كيانا فاعلا  وعلى مستوى متكافىء دون وجل أو خوف من تلك المعوقات التي ظلت لقرون  تتشكك في قدرات النساء على أن يكنّ فاعلات في الهم الإنساني المشترك وعملية البناء والتنمية.

وقبل أن نستطرد في الحديث والمقاربة، يجدر بنا أولا  الدعوة  لتحقيق فهم موضوعي لمفهوم الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي،باعتبارها موازنات ترمي باتجاه تحقيق أقصى قدر من العدالة والمساواة على أساس النوع الاجتماعي، أي بين النساء والرجال والفتيات والفتيان،  في ما يتعلق ببنود الموازنات ومن حيث أوجه الإنفاق العام، ونوعية المشاريع المراد تحقيقها من خلال تلك الموازنات  العامة على طريق جسر الفجوة المزمنة في عملية التنمية الشاملة والتي تحتاج بالفعل إلى عدالة لا ترتبط  بالمساواة بين النساء والرجال فحسب، وإنما  أصبحت ترتبط بمبدأ عدالة توزيع الثروات، كما أصبح ينظر لها في الدول الأكثر تقدما وفي مفاهيم حقوق الإنسان العالمية، وبالمثل فهي ترتبط بتحقيق بنود دستورية تتحدث عنها مختلف الدساتير والتشريعات في العالم والتي  ترتبط بمفاهيم مثل المواطنة ومسائل تكافؤ الفرص والمساواة والعدالة بين المواطنين وما أكثرها في دساتيرنا المكتوبة وقوانيننا النافذة!

لنتفق أولا على أهمية موضوع ندوتنا لهذه الأمسية، والذي سنحاول جاهدين من خلال ما سنطرحه معا، تسليط  الضوء  على قضية حساسة  ظلت مهملة وفي أحسن الحالات ثانوية ولعقود طويلة، فقط تأملوا معي تلك الفترة الزمنية التي تفصلنا عن  قرار استراليا صاحبة المبادرة منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي وبين مصادقة دول الكومنولث وبين ما أصبح يطرح لدينا مؤخرا فقط على استحياء وتردد.  وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة وبرامج (الاسكوا) وبرنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة (اجفند)، فأن معظم الدلائل تشير وبوضوح إلى عمق الفجوة التي تفصل مجتمعاتنا عن تحقيق فهم متقدم باتجاه تحقيق تلك العدالة الغائبة بحق أكثر من نصف مجتمعاتنا العربية التي لا زالت  نسبة أمية النساء فيها تتجاوز ال 50% ومشاركتها في عملية التنمية الاقتصادية لا تتجاوز ال 30% علاوة على أن مشاركتها السياسية في صناعة القرار  لا تتجاوز ال 2% وهي مؤشرات مهمة نستطيع أن نفهم من خلالها سلبية وتخلف السياسات التنموية وعجزها حتى الآن عن إنصاف المرأة لدينا، علاوة على أن  من يضعون تلك السياسات التنموية  ومن يرسمون ويقررون موازناتنا العامة  في الحكومة  والوزارات وحتى البرلمانات جلهم من الرجال، ومما يزيد الطين  بلة  فإنهم أساسا من الفنيين والمحاسبين على أحسن تقدير! وهنا يمكن أن نقول انه من الخطأ أن تبقى الموازنات  شأنا تقنيا ومحاسبيا بحتا تضطلع به  فئة من أولئك الفنيين والمحاسبين الماليين مهما بلغوا من إخلاص ومهنية. 

  وبالنسبة لنا هنا في البحرين، فأعتقد أن أول طرح رسمي جدي لهذه المسألة ربما جاء من خلال جلسات المؤتمر الوطني لدمج النوع الاجتماعي الذي نظمه المجلس الأعلى للمرأة في يونيو من العام 2008 حيث أوصى المجتمعون من خلاله آنذاك بضرورة دراسة ومراجعة واقع موازنات المؤسسات الرسمية في البحرين للتعرف على مدى استجابتها لاحتياجات  برامج النهوض بالمرأة باعتبارها أحدى أهم الفئات الأساسية في مجتمعنا البحريني، حيث أكدت الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة  المحامية “لولوة العوضي” على ضرورة العمل مع أصحاب القرار في الوزارات والمؤسسات الرسمية للتعاون بهدف إدماج  الخطة الوطنية للنهوض بالمرأة في برامجها وميزانياتها  والتنسيق من اجل ذلك والسعي لحفز تلك الجهات على إدماج النوع الاجتماعي في برامجها وموازناتها، كما أنها قد شددت أيضا على ضرورة تبني منهجية جديدة لإعداد الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي عوضا عن بناء القدرات وإعداد الكوادر الفنية  المتخصصة لدى مختلف الجهات الحكومية في مجال النوع الاجتماعي.   وإذ ندعم ونُشجع هذا الفهم  الايجابي الذي بدأ  يتأصل لدى قيادات المجلس الأعلى للمرأة إلا أنه يجدر بنا القول  أن ذلك لم يتأتى بطبيعة الحال من فراغ، فقد لعبت حركتنا النسائية ممثلة في الاتحاد النسائي البحريني ومن قبله مختلف الجمعيات النسائية وبعض مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بقضايا المرأة دورا مهما في  تحقيق هذا الفهم، الذي نرى انه  سيظل قاصرا على أية حال إذا لم يفعّل من خلال البدء الفعلي في تطبيق تلك التوجهات الجديدة التي لا نجد للتلكؤ في تطبيقها من مبررات سوى  القصور والسلبية الشديدة  لدى من يرسمون السياسات ويضعون الموازنات في النظر للمرأة البحرينية باعتبارها ركنا مهملا في عملية التنمية الشاملة، والبون شاسع بين الحديث عن الارتقاء بالمرأة وتمكينها وما يمارس واقعا من سياسات غير منصفة بحقها سواء على مستوى إشراكها في صناعة القرار في المؤسسات الرسمية أو في مواقع العمل في القطاعين العام والخاص. 

 وبالنظر لموازناتنا العامة، فانه يصعب الحديث عن أرقام أو إحصائيات  أو حتى برامج ومشاريع واضحة المعالم والأهداف أو حتى تستند إلى  رؤية  واضحة، رغم ما أسلفت بالإشارة إليه حول وجود الخطة  الوطنية للنهوض بالمرأة التي يضطلع بها المجلس الأعلى للمرأة، والتي يفترض أن تمثل رؤية وطنية شاملة تسعى الدولة لتنفيذها عبر عمل دؤوب ومسئول وعبر رصد ميزانيات لا زلنا لا نجد لها ركنا معلنا أو خفيا في موازناتنا العامة حتى الآن، فلا زالت  موازناتنا العامة  في البحرين ترسم لخطط الارتقاء بالنساء من زوايا تقليدية محددة يشوبها الخلط والارتباك كتلك التي نراها في قانون التقاعد والتأمينات الاجتماعية أو  حتى قانون الضمان الاجتماعي البحريني الذي يصنف النساء ودعمهم باعتبارهم إما مطلقات أو معنفات أو أرامل أو أيتام أو فقراء ومعوزين يستحقون معونة الشؤون الاجتماعية شأنهم شأن بقية الفئات الضعيفة في المجتمع، وتلك نظرة  قاصرة بالفعل لن تستجيب أبدا إذا ما استمرت  لمفهوم الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي الذي نحن بصدد الحديث عنه.

إن قضية الموازنات المستجيبة  للنوع الاجتماعي ودور الحكومات والبرلمانات تجاهها لا يجب أن ينظر لها سواء من الحكومات أو البرلمانات أو حتى من قبل الجمهور على أنها نوع من أنواع الترف الفكري الذي لا طائل من ورائه، بل يجب أن يكون مسعانا المشترك هو كيفية جعلها  مسألة أساسية  ذات مضامين تنموية،  بحيث لا يمكن لمجتمعاتنا أن تتحدث عن تنمية مستدامة أو شاملة في ظل إغفال أو حتى إنكار لدور المرأة في عملية التنمية، ولأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن لها أن تستقيم في ظل عدم الاهتمام بالموازنات وبرامجها ومواردها وأوجه الصرف فيها، فان ذلك في حد ذاته يجب أن يفتح الباب واسعا أمامنا لقراءة  مختلفة عن ما درجت عليه بعض مؤسساتنا الرسمية من فهم ناقص عند تناول الموازنات باعتبارها أرقام صماء، فالموازنات كما نفهمها هي رسم لسياسات وبرامج تسعى من خلالها الحكومات الى تحقيق انجازاتها على الأرض خلال فترة زمنية محددة، بحيث تسهل مقاربة ادءاها بحجم أفعالها بعيدا عن الكلام المرسل الذي لا يقدم ولا يؤخر.

من هذا المنطلق فإننا ننوه بما أصبح يطرح لدينا في البحرين من برامج يطلق عليها عادة برامج تمكين للمرأة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتي تقوم بها جهات مثل المجلس الأعلى للمرأة ووزارة التنمية والشؤون الاجتماعية وصندوق العمل تمكين وغيرها من الجهات، حيث أننا لا ننتقص من أهمية تلك البرامج  الطموحة وقدرتها على خلق بوادر اهتمام بقضايا المرأة مستقبلا، ويجب أن نسعى من مواقعنا كقوى سياسية ومؤسسات مجتمع مدني على حفزها وتطويرها وحتى نقدها نقدا بناءا باعتبارنا شركاء في عملية التنمية الشاملة، إلا أن برامج تمكين المرأة  القائمة  لدينا حاليا  هي حقيقة لا تستند إلى رؤية وطنية شاملة بحيث  تكون مستمدة لقوتها وزخمها من  ضرورة إعادة هيكلة موازناتنا العامة على أسس تنموية حقيقية تكون قادرة على النهوض بالمجتمع بشكل عام وبالمرأة بشكل خاص باعتبارها نصف المجتمع المعطل الذي لا يمكن أن تستقيم عملية التنمية الشاملة بدونه، ونعلم جيدا أن تلك المهمة ستظل ممكنة طالما وجد الفهم الموضوعي الشامل لعملية ومسار التنمية المنشودة، دون الرضوخ والاستمرار في تكريس موازناتنا العامة لجوانب أثبتت التجربة أن بذخ الإنفاق عليها قد شكل عائقا حقيقيا أمام عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ونعني بذلك إنفاق أكثر من ثلث موازناتنا العامة على الأمن والدفاع دون مبررات موضوعية تستحق التضحية بمواردنا الشحيحة أصلا.

وفي هذا الإطار فإننا نرى أن  الحل الأنجع يكمن في  الإسراع نحو إيجاد  هيكلة جديدة لبنية موازناتنا العامة ابتداءاً من الموازنة القادمة 2011-2012  والتي سيناقشها البرلمان القادم ضمن أولى مهماته، بحيث  تستجيب  برامجها  وأهدافها لإنصاف النوع الاجتماعي وعملية التنمية الشاملة، وبطبيعة الحال فان ذلك  يحتاج لجهود استثنائية من قبل  عدة جهات معنية بقضايا المرأة مثل المجلس الأعلى للمرأة ووزارة التنمية الاجتماعية ومجلس التنمية الاقتصادية وصندوق العمل والاتحاد النسائي واتحاد عمال البحرين وبقية مؤسسات المجتمع المدني المعنية، نحو تفعيل رؤية مجتمعية تكون أداة ضغط مؤثرة على صُناع القرار ومن يرسمون برامج التنمية ومن يناقشون ويصادقون على الموازنات العامة  لدى الحكومة وفي السلطة التشريعية عبر الربط  والتشبيك  بين كل تلك المكونات بهدف خلق فهم متقدم يتفهم الحاجة لإيجاد تنمية  حقيقية غير منقوصة يكون فيها النوع الاجتماعي حاضرا ضمن أهداف وبرامج وخطط  تنموية تحظى بالتوافق المجتمعي دون أن تكون مجتزأة أو فوقية أو أن تكون تحت رحمة تلك النظرة النمطية المتأصلة منذ عقود في التعاطي مع الموازنات العامة وسبل الإنفاق العام.