وهو أنّي التفَتّ.
وأنّ الرحيل أخفّ من الالتفاتة، غير أنّي التفتُ إلى غدر نزل بملفات بعض الصور كان أهمها صور بيت مجيد مرهون التي التقطتها في الثاني عشر من شهر يناير/ كانون الثاني 2006 . غياب إلكتروني سريع، خفيف، فادح، لا أعرف كيف حدث، ولم يتبيّن لي إلاّ بعد رحيل مرهون مباشرة. ركضت ملهوفاً بأنّ صوره صار لها معنى آخر الآن، وهي التي تهب الراحل مكاناً بيننا ولو كان على جدار.
فتحت الأرشيف كلّه على البصر: أين صاحب الشاي الفارسي اللذيذ؟ الآن هي في هذا الملف، لا في هذا الملف، لا.. الأكيد أنّها أكثر من سبعين صورة.
الأكيد الثاني أن لكل زاوية في بيته صوراً وخصوصاً زاوية الضوء خلف الباب، جهة الشرق.
الأكيد الثالث أن مرهون كان يودّ لو يكون في كلّ صورة، في كلّ مكان.
الأكيد الرابع ظنّ أكثر من مرّة أنّي لم أكن أصغي إليه.
الأكيد الخامس أنّ الصور ليست في واحد من ملفات الأرشيف المغدور، المنتظر خطأً بشرياً، أو لا بشرياً يفنيه، بقصد أو بغير قصد كلاهما فعل منجز لديه. الأرشيف الالكتروني هو المكان الوحيد فيه الموتى لا يحتاجون إلى سعة. والراحل في فهم الجهاز لا تتجاوز هويته رقماً مكرراً.
مؤقتاً.. لقد فقدتُ الصور إلا ثلاثاً لا أعرف أيضاً كيف نقدت نفسها.
يطوف بي في بيته الصغير في مدينة حمد من ذكرى إلى أخرى، بينما ترعى زوجته فاطمة لنا الشاي. صوت مرهون العالي جداً أفضل علامة على مكان تواجدنا. كان يريد أن يقول لي كلّ شيء لو استطاع، أن يقرأ كلّ وثيقة حتى لو كانت مرسومة، وأن ينافس حركة الكاميرا على كلّ حركة لها في البيت. ما كنت أريد أن أستمع مثلما أصوّر، لكنه كان يتأكد من إصغائي وانتباهي كلّ لحظة بسؤاله: عرفت؟ اللحظة الوحيدة التي تمكنت فيها منه عندما حشرته في زاوية خلف باب جواره نافذة، هي مصدر الضوء الوحيد في البيت في تلك اللحظة.
– هنا.. هنا
– في الزاوية؟
– إيه.. في الزاوية، نحتاج الضوء قبل أن..
– أعزف في الزاوية؟
– أكثر سعة من السجن..
قبل أن يعزف بآلة الساكسفون الذي كرر مراراً أنّه يدلعها، سرد بعض تاريخها معه، وكاد يسمّي لي أجزاءها، لولا أنّي طلبت منه العزف أولاً قبل أن يعزف عنا الضوء. فلما بدأ يعزف واتسعت الزاوية، وصارت الصور كثيرة بالموسيقى، واطمأننت قلت له: يمكنك الآن أن تقرأ شيئاً من كلام السجن:
‘الكورس: من بين ضباب الأجداث، ومن وراء الحجب، تمرّ أصداؤنا الأثرية تنادي.. تنادي نحن السابقون وأنتم لاحقون نحن السابقون وأنت لاحقون.. لاحقون.. لاحقون. هذه كأس الكلّ شاربها.. رحيقها إكسير الفناء ولا عدم.. تعالوا.. تعالوا’
قرأ كثيراً، وأصغيت قليلاً فالمصور يصغي لإشارات عينيه، وعينايّ في تلك الزيارة عليه. قطعت فاطمة كلامنا بالشاي. قال: هذا شاي.. أكيد ما شربت مثله قط.. شاي ثقيل ‘سنكين’.
بدأ بحديث موسيقي آخر.. الآن سوف أصغي إليك، وأن شاي فاطمة لذيذ بك، وأنّها بيت مرهون.
مكان صغير
* ” كلما صادفته يعبر الطريق بين زنزانته وأطراف جزيرة “جده” يسير مثل المسحور، يتحرك وينتقل كمَن يذرع المسافة بين حركة وأخرى في سيمفونية لا يسمعها أحد سواه. رشاقته في المشي لا علاقة لها بما يفعل الآخرون في سيرهم، لقد كان يرقص”
- قاسم حداد
* ” في دار الملحنين السوفيت في موسكو، وضمن أنشطة مهرجان الشبيبة والطلبة العالمي في صيف 1985 كنا قد اخترنا السجين مجيد مرهون، رئيساً فخرياً للجنة التحضيرية الوطنية البحرينية للمهرجان بغية لفت نظر شباب العالم وقواه الديمقراطية إلى معاناة هذا الفنان الشاب الذي يؤلف الموسيقى من وراء القضبان”
– حسن مدن
* ” على الفنان مجيد مرهون أن يعترف بولائه للسجن الذي احتضنه ليبدع فنه، وعلى السجن أن يدين بالعرفان لنزيل مثله ”
- حسن كمال.
* ” وفي السجن كانت موسيقاه على الكلارينيت تحمل سكان تلك الجزيرة بعيداً إلى حيث يحلم الناس دون خوفٍ من عقاب ”
– عبدالهادي مرهون
الوقت 13 مارس 2010