لم يكتب سيرته الذاتية بل تركها لنا ومضى، ربما لم تسعفه الخطوب وتبعات برودة الغرف الموحشة وأمراضها وقسوتها وعوادي الزمن الجاحد، الذي لم يحتمل أناساً بحجمه وصلابته وقوة تحمله وإيمانه بحتمية انتصار قضيته ورسالته التي أفنى لأجلها جل عمره، رغم قسوة الزمان ووعورة الدروب وشح الأمطار في الصحاري المقفرة، يكفيه انه كتب السطر الأخير دامع العينين ومضى مترجلا؟ لعله ترك فينا أسئلة حائرة ستظل حتما تبحث لها عن إجابات حتى يحين زمن غير هذا الزمان وربما أناس غير أناسه!! مجيد مرهون ذلك المرهف الشجاع الذي رحل مؤخرا عن دنيانا بصمت وتواضع لا يملكه إلا الكبار من أمثاله رغم قلتهم، رحل سريعا وقد شاخت أوتار الزمن، لكن أوتاره هو ستظل شامخة لا تشيخ لأنها تحمل كل شموخنا في وطن يزدهر فيه الحب والأمل يافعا في دروب خضراء لا تعرف الكراهية والحقد، انه رحيل من نوع آخر قد لا نجده يتكرر كثيرا، إلا عندما تأتلف كل ألوان القسوة والعذاب لتمتزج بصور شتى ومعاناة في شخص هو من عامة الناس يعيش بينهم ومعهم، فقد أذبلت الهموم والظلامات زهرة شبابه، بعد أن حاولت مرارا قبلها أن تنتزع روحه العصية على الانتزاع، ليظل هو الجسد والروح والضمير العصي على الكسر والتلون، لشعب تناسلت من روحه شذرات وسواقي وشموع ستظل تنير دروبنا نحو التقدم في زمن بوركت فيه الخسة وحوربت فيه الوطنية.. إنه رحيل يشبه في وحشته وقسوته تلك الغربة التي عاشها بطل فذ شجاع من أبناء أرضنا، ممن انصهروا عميقا في ترابها وتشربوا محبتها مع أول درس ساقه معلموهم الأوائل، فتشرب الفتى اليافع حبا لا يجاريه شيء آخر، مهما جهد إلى ذلك أحد ممن حاولوا بيأس أن يكسروا عزيمته في مهدها الأول، سعيا منهم لإجهاض معنوياته المفعمة ومعه طابور طويل من محبي الشمس والحرية والتسامح، من أولئك المؤمنين بحب هذه الأرض وأهلها، ممن تمرغ مجيد كثيرا في حواريهم وأحيائهم وخاض في مستنقعاتها حتى الركب دون وجل أو خوف، وكان زاده الوحيد وهو الفقير الجائع المحروم، عزيمة رجال ورفقاء درب صنعوا من ضمائرهم عمودا لخيمة كان عليها أن تظلل الوطن كل الوطن، وكان ذلك أملا ووعدا صنعته السواعد السمراء لوطن يود أن يعيش بسلام ليحتضن كل أبنائه في طمأنينة وصفاء.
ها هو يكتب السطر الأخير من حكايته ويمضي، غير أن الحكاية لم تكتمل بعد، فتفاصيلها ستظل اكبر من أن يكتبها قلم أو أن تحكيها رواية، وسيظل فينا أبدا يرسم بعبقريته عناوين ملأى بالخبز للفقراء وللفرح الآتي الذي حلم به كثيرا في أشهر الصيف القائضة في حي العدامة، وفي برودة الحجر المهترئة وأنين الأصفاد وقسوتها.. ها هو كعادته يودعنا بقبضته محدقا فينا واحدا تلو الآخر بعينين غائمتين أنهكهما الزمن الجاحد، وكأنه يقول لنا بصوت متعب إلا من روحه ووهجه الجميل، وقد شكّلته قسوة السجان ورطوبة المكان المفعم بالوحشة والعزلة، إلا من ناي يئن وموج لا يمل معاودة الشواطئ الضائعة في التيه والظلمة… لن تسقط الراية طالما بقيت فينا قطرة دم تنبض بمحبة أوال وشعبها، سيروا قدما رغم وعورة الدروب ومنعرجاتها فانتم أولى بها… وأراه يمضي بعيدا ضاحكا مقهقها ساخرا، ممن أمعنوا في قفل الحديد وأحكموه بغلظة في الجزر النائية متيقنين أنهم بذلك سيهزمون الحقيقة التي تمثلت في روحه التي ستظل وثابة فينا أبدا.
لم يكن مجيد مرهون مجرد فنان أو حتى مجرد مناضل عادي، فقد رفض أن يكون إنسانا عابرا في ذاك الزمن المشحون بالخوف والعتمة، وهو الذي ترك بصماته محفورة بعناد على تلك الجدران المهترئة المليئة بالخوف والظنك، لتفعل فعلها بحق جسد منهك لفنان امتلأ حبا وإخلاصا وعبقرية وصلت بنا بعيدا لكننا عجزنا عن أن نلتقطها رغم أنها في متناولنا، فكم نحتاجها اليوم لنداوي شيئا من جراحات زمن أغبر لا يريد أن يغادرنا.
مجيد مرهون… نستميحك عذرا لتقصيرنا وقصورنا أيها الراعف في جبين الوطن وضمير الناس، وستظل فينا رمزا وأملا وغابة ياسمين وفرح ينتظره كل أبناء أوال ممن أحبوك يا حبيب الشعب والوطن.
صحيفة الايام
14 مارس 2010