المنشور

في المفاضلة بين القسر والحرية

شدني أن كاتباً كبيراً هو غابرييل ماركيز كتب مقالاً في التربية – نعم – في التربية وليس في الأدب أو فن الرواية، خصصه للحديث عن هذا الموضوع، فلاحظ انه إذا سمع أطفال كثيرون نفس النوتة الموسيقية، فان بعضهم يستطيع تكرارها بدقة، فيما لا يستطيع آخرون فعل ذلك.
معلمو الموسيقى يقولون ان المجموعة الأولى يمتلكون ما يسمى بالسمع الأولي المهم، لكي يصبح الإنسان موسيقياً، للدرجة التي جعلت أحد كبار الموسيقيين المعروفين عالمياً أن يعزف مقطوعة وهو في الرابعة من عمره، فشل أبوه الذي كان عازفاً شهيراً في أن يعزفها.
بالنسبة للقصاصين توجد تجربة لا يمكن أن تفشل أبداً برأي ماركيز، فلو طلبنا من مجموعة أفراد مختلفين أن يحكوا لنا قصة فيلم شاهدوه، فان النتائج التي سنحصل عليها نتيجة هذا الاختبار ستكشف الكثير. فالبعض سيعبرون عن انطباعاتهم الثقافية أو السياسية أو الفلسفية، لكنهم لا يعرفوا أن يحكوا قصة الفيلم كاملة، بالترتيب أو بتتالي الأحداث، فيما سيقوم آخرون بروي القصة بالتفصيل كما يتذكرونها واثقين من أن هذا كافٍ لنقل الشعور الأصلي.
هذا كلام قاله الروائي الكولومبي المعروف غابرييل ماركيزا، ليستنتج منه أن الأوائل يمكن أن يكون لهم مستقبل لامع في أي مجال، لكنهم لن يصبحوا قصاصين أبداً، أما الآخرون فانه ينقصهم الكثير لكي يصبحوا قصاصين، تنقصهم القاعدة الثقافية التكتيكية والأسلوب الخاص والقدرة العقلية، لكن رغم ذلك فان هذه المهارات يمكن اكتسابها، ويمكنهم بالتالي أن يصبحوا قصاصين، لأنهم يمتلكون موهبة القص على خلاف المجموعة الأولى.
وفي كلمات قليلة، فان هناك من يمتلكون موهبة القص منذ أن يبدأوا الكلام، فيما لا يستطيع آخرون اكتساب هذه الملكة أبداً.
هذا الحديث جاء في سياق دعوة شاملة دعا فيها ماركيز إلى التعرف على المواهب، على كشفها مبكراً ليلاحظ أن المدرسة في بلده كولومبيا، وكولومبيا من البلدان النامية شانها شأن بلداننا، تقوم بقهر المواهب وكبتها وقتلها لا تنميتها، وهو يُذكرنا بالحكاية التقليدية التي نعرفها جميعاً، عن أولئك التلاميذ الذين لا ينجحون في المدرسة لأنهم لا يحبون ما يدرسون، ومع هذا يمكنهم التفوق فيما يحبون إن ساعدهم أحد.
كثيراً ما تكون المدرسة فضاء يقص الأجنحة لفقر الروح فيه، فهي كثيراً ما تتحول إلى صخرة أمام تعلم أي شيء، والفنون خصوصاً، لأن فيها تبديد للمواهب بالتكرار اللانهائي للمقولات الأكاديمية الجامدة، بينما أمكن لأفضل الموهوبين أن يصبحوا عظماء ومبدعين لأنهم لم يكونوا مضطرين للذهاب إلى قاعات الدراسة.
مشكلة المدرسة أنها لا تنمي لدى الطلاب هواية القراءة، وإنما تجبرهم على القراءة وكتابة ملخصات لما قرأوه من كتب، وبعبارات ماركيز، فانه كثيراً ما نجد “طلاباً مثقلين بالكتب التي يجبرونهم على قراءاتها بنفس المتعة التي يتناولون بها زيت الخروع “.
وثمة نصيحة مهمة يسديها ماركيز إزاء الموضوع نفسه:« سيكون أكثر مثالية أن يخصص الطفل جزءاً من عطلة نهاية الأسبوع لقراءة كتاب في المكان المتاح، وحتى في المكان الذي يُحب، لكن من الجرم بالنسبة له ، وللكتاب، أن يقرأه قسراً في ساعات اللعب.
في المفاضلة بين القسر والحرية، يخلص ماركيز إلى ما يشبه الحكمة: “معايير التعليم شديدة التنوع، لكن أكثرها مرونةً وجدوى هو ذاك الذي لا يقبل سوى بالحرية الكاملة”
 
صحيفة الايام
13 مارس 2010