بعد خروجه من السجن الطويل لم يدعُ نيلسون مانديلا إلى الانتقام من سجانيه هو شخصياً، ومن منتهكي حقوق بني جلدته السود في جنوبي أفريقيا، إنما دعا للصفح. لكنه قال أيضاً: نعم للصفح، لا للنسيان.
قريبة من هذه العبارة قالها أحد المعارضين في بلد أوروبي مكث طويلاً في السجن، تقول: «عفو عام.. لا فقدان للذاكرة».
هذا السلوك المتسامي على الجرح من قبل الثوار أو الرجال العظماء الذين تعرضوا للأذى يذكر بمقولةٍ لكارل ماركس فحواها أن ضحايا الاستغلال هم الأقدر على التمتع بما وصفه بـ «الأخلاق الكونية».
إنهم أكثر حساسية من جلاديهم ومستغليهم تجاه القيم الإنسانية العليا، لذلك فإنهم من يُظهر نبله واستعداده للغفران والصفح.
يبدو نيلسون مانديلا بالذات واحداً من هؤلاء المشبعين بتك القيم الكونية التي تشربها من قراءاته المبكرة للفكر اليساري سنوات شبابه، لذلك فانه بعد خروجه من السجن مرفوع الرأس، رسم لنفسه هدفاً يقضي لا بتفكيك جنوب أفريقيا، وإنما بالعمل على إدماج السود فيها، وحين أصبح في موقع السلطة سعى لإدماج البيض في النظام السياسي الجديد الذي جاء هو على رأسه.
أدرك ما نديلا برهافة الثائر وبُعد نظره وتكوينه الإنساني المنفتح والواسع الأفق أن العقاب والانتقام يمكن أن يقودا البلاد إلى مخاطر كبرى، والى جانب هذا التقدير السياسي الصائب أظهر مانديلا نُبله الشخصي المثالي الذي فيه شيء من نُبل القديسين.
برأي جاك دريدا أن الصفح عن أشياء قابلة للصفح عنها ليس هو الصفح بحد ذاته، «فما هو قابل للصفح مصفوح عنه مقدماً». المعضلة تكمن في الصفح عن الأشياء التي لشدة فداحتها لا تحتمل الصفح، ومن هنا تجيء أهمية العبارة المُدوية لنيلسون مانديلا: «نعم للصفح .. لا للنسيان»، ذلك أن الصفح قرين الذاكرة الحية، فالصفح لا يتم إلا بتذكر واستحضار الأعمال الشريرة كما وقعت بدون رتوش أو ماكياج أو تلطيف، وفق الشرح الذي كان دريدا قد بسطه وهو يتناول الموضوع.
أما مواطنه ادغار مورغان يرى أن الأمم العظيمة لا تستذكر فقط اللحظات المجيدة في تاريخها، وانما تستذكر كذلك اللحظات القاتمة والمعيبة، تلك التي يمكن أن ندعوها البقع السوداء في هذا التاريخ، لا برغبة مازوخية في إعادة تعذيب الذات بتذكر عذابٍ سابق، وإنما برغبة العظة واستخلاص الدروس لكي لا تنشأ مجدداً تلك الظروف التي أنتجت تلك المعاملة الحاطة بكرامة الإنسان.
لا تبدو هذه الأفكار تهويمات نظرية، وإنما تتصل بمعضلات تواجه جميع المجتمعات التي تعبر من مرحلة قمع الدولة وعسفها إلى مرحلة التحول نحو الديمقراطية والتعددية السياسية، فالمراحل السابقة تلقي بكل ثقلها على الحاضر جراء ما ضجت به من آثام وخطايا بحق الضحايا الذين كانوا معارضين لسطوة الدولة وانتهاكها للحريات العامة والفردية، حيث لا يبدو الصفح مقبولاً بدون مداواة جروح هذه الضحايا، عبر اعتراف الدولة بما اقترفته من خطايا بحقهم.