ما الذي يجري في الشرق الأوسط؟ سؤال تطرحه جملة تطورات مثيرة ومريبة قطعت في الآونة الأخيرة حالة المراوحة التي تشهدها المنطقة منذ فترة، سواء على صعيد الحراك السياسي والدبلوماسي أو على صعيد التسخينات العسكرية المتقطعة التي تحدث بين الفينة والأخرى على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، بما فيها بؤرة المواجهة الساخنة الغزاوية الإسرائيلية.
جهاز المخابرات الإسرائيلية ‘الموساد’ يرسل فريقاً من القتلة إلى دبي لتتبع وتصفية القيادي في حركة حماس محمود المبحوح، حيث قاموا بتنفيذ جريمتهم مساء يوم التاسع عشر من يناير الماضي في أحد فنادق دبي حيث كان ينزل المبحوح.
بعد ذلك بأيام تعلن إيران عن نجاحها في تنفيذ عملية أمنية مثيرة ألقت خلالها القبض على عبدالمالك ريجي زعيم ما تسمى بمنظمة ‘جند الله’ يوم الثلاثاء 23 يناير الماضي أيضاً، حيث كان في طائرة قرغيزية متجهة من دبي إلى جمهورية قرغيزستان السوفييتية السابقة قبل أن تعترضها مقاتلتان إيرانيتان من طراز إف-5 وتجبرها على الهبوط في مطار بندر عباس ثم تقتاد ريغي ومساعده حمزة وأفراد حمايته القرغيزيين الخمسة إلى طهران.
وكانت الصحافة الأمريكية ومن ثم الحكومة الباكستانية قد أعلنت قبل ذلك ببضعة أيام فقط نبأ اعتقال نائب الملا عمر زعيم طالبان، في مكان ما في مدينة كراتشي الباكستانية. وفيما قالت واشنطن إن الاعتقال تم بعمل مخابراتي أمريكي باكستاني منسق، تواردت أنباء عن دور إيراني سهل عملية الاعتقال. ويقال أيضاً إن تصريح السفير الباكستاني في طهران بأن بلاده قد ساعدت طهران في إلقاء القبض على عبدالمالك ريجي ليس مستبعداً ارتباطه باعتقال الرجل الثاني في حركة طالبان. وتتوالى الأحداث ‘الجيمس بوندية’ تباعاً، فتصدم صحيفة ‘هآرتس’ الإسرائيلية حركة حماس بمفاجأة جديدة، بكشفها عن نجاح إسرائيل في تجنيد نجل أحد أبرز قادة حماس ومؤسسيها وهو مصعب نجل الشيخ حسن يوسف المعتقل حالياً لدى إسرائيل، وأنه سوف يصدر كتاباً باللغة الإنجليزية في مارس الجاري باسم ‘ابن حماس’ يروي فيه الأعمال الجاسوسية التي قام بها لصالح المخابرات الإسرائيلية ومن بينها دوره في إحباط عملية اغتيال الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز عندما كان وزيراً للخارجية.
حقاً إنها تطورات متلاحقة بالغة الإثارة. أما المثير فيها فهو الصعود البارز لدور أجهزة المخابرات في صنع أحداثها. فهل قررت الأطراف المتجابهة في الشرق الأوسط الاستعاضة عن الحرب التقليدية بحرب الأجهزة الأمنية؟ أو أنها أرادت تعويض معاركها الكبرى بمعارك أقل شأناً للاحتفاظ بسخونة الوضع والمواجهة اتساقاً مع أقطاب مصالح ‘السخونة الدائمة’؟
إن الأمر المُسَلَّم به في إشكالية هذه الحوادث المتوالية، هو أن إسرائيل بحد ذاتها تشكل عامل عدم استقرار دائم في منطقة الشرق الأوسط برمتها. فهي دولة بوليسية تنام وتصحو على هواجسها الأمنية، كما إنها بحاجة دائمة لتذكير الغرب المؤسس لها والضامن لوجودها بأن هذا الوجود مهدد باستمرار من جانب ‘الأعداء’ الشرق أوسطيين.
فما بالك بهذه الإسرائيل وهي تُحكم اليوم من قبل مجموعة من القتلة مثل وزير الدفاع إيهود باراك صاحب ملف السوابق في عمليات القتل والتصفية الجسدية الخارجية لقيادات فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية لعل أبرزها قيادته لعملية فردان في بيروت أوائل سبعينيات القرن العشرين الماضي والتي اغتال خلالها كمال ناصر وكمال عدوان وأبويوسف النجار. ناهيك عن وجود شخص مغرق في تطرفه لحد إقحامه الدين اليهودي، على الطريقة ‘البوشية’ بشكل فج في القضايا السياسية، على رأس حكومتها، نعني بذلك بنيامين نتنياهو الذي لا يقل عن إيهود باراك في حماسه لتنشيط إحدى فرق الموت في الموساد لتنفيذ جرائم قتل خارج الحدود، فهو من أمر بتصفية خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في عمّان، وهي العملية التي انتهت إلى فشل ذريع وفاضح كما نعرف.
بهذا المعنى فإن قيام حكومة إسرائيل بتحريك إحدى فرق الموت لديها.. إلى خارج حدود الدولة العبرية، في سوريا ولبنان ودبي وربما في أماكن أخرى، لا يقتصر هدفه على الجوانب الجرمية الخالصة وإنما هي تريد من ورائها إرسال رسائل سياسية إلى عديد الأطراف في المنطقة، منها سوريا وإيران وحتى الولايات المتحدة التي كان رئيسها باراك أوباما تحمس لتفعيل وتسريع عملية قيام الدولة الفلسطينية بتفريغه جورج ميتشيل تماماً لإنجاز هذه المهمة.
ولعل إعلان نتنياهو ضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح إلى قائمة التراث اليهودية تندرج في إطار هذا التصعيد المعنون للأطراف السالف ذكرها.
ويبدو أن هذه الأطراف، خصوصاً سوريا التي تسلمت عبر عدد من المندوبين الأوروبيين، رسائل تهديد إسرائيلية، قد فهمت الرسائل الإسرائيلية، فأرادت أن ترد عليها على طريقتها الخاصة. فكان لقاء القمة الإيراني السوري في دمشق بين الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والسوري بشار الأسد في الخامس والعشرين من فبراير الماضي والذي انضم إليه لاحقاً أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، قبل أن يتسع اللقاء ليشمل عدداً من قادة المقاومة الفلسطينية، حيث أسفرت اللقاءات عن ‘إعلان الجهوزية والاستنفار لمواجهة احتمال قيام إسرائيل بعدوان، والتأكيد على المواجهة المباشرة وعدم ترك العدو يحدد سياق أي معركة مقبلة وإطارها، ورفض التهديدات التي تتولى جهات أوروبية نقلها إلى سوريا والتي تستهدف وقف دعم المقاومة في لبنان وفلسطين من جهة، واتخاذ دمشق خطوات أحادية إزاء التفاوض مع تل أبيب من جهة ثانية.
في تاريخ الحروب يقال إنه عندما تتكثف أعمال التجسس وتزيد حركة إحمائها عن المعتاد، فإن ذلك يعد فألاً مشؤوماً ينذر بحدوث انعطاف حاد في الأحداث قد يتجسد في عمليات حربية، قد يكون مشعلوها استهدفوا حلحلة التخندقات السياسية السائدة، وجعلها بالتالي حرباً خاطفة ومحدودة النطاق، فإذا بهم يفاجأون بمعطيات تتصل بالطرف أو الأطراف الأخرى المستدرجة (بفتح الراء) لهذا النزاع لم تكن ضمن حسابات الطرف المحرِّك له. ومثلما جاءت نتائج جريمة اغتيال المبحوح في دبي بما لا تشتهي سفن قيادات الموساد الإسرائيلي، حيث تحول العمل الجاسوسي الذي أرادت حكومة القتلة في تل أبيب إسباغ البطولة عليه، إلى أضحوكة في نظر الرأي العام الدولي بعدما نجحت شرطة دبي في كشف كل المستور المتصل به على الملأ، فإن من غير المستبعد أن تؤول المغامرة الحربية التي تدور في الرؤوس الصهيونية الحامية إلى نفس المآل الذي انتهى إليه عملهم الجاسوسي الخائب في إمارة دبي.
صحيفة الوطن
6 مارس 2010