ماذا يمكنني أن أضيفه في رثاءِ هذا المبدع الملتزم .. الموسيقيّ الأسطوريّ: “مجيد حميد مرهون”، الذي رفع إسمَ البحرين عالياً ونقله إلى سماء العالمية، كما لم يفعلْ أحدٌ غيره، بالرغم عن إمكانياته المُكبّلة وحياته المَرهونة ! فقد رثاهُ كُثرٌ من الأقلام المتميّزة وكَتَب عنه خيرةُ أهل الألباب في بلدنا وخارجه أيضاً.. ولابد اننا – أنا وغيري- سنضيف شيئا ما إلى سِفره الخالد فيما قد دُوّن فيه من مراثي.. إلاّ أني أشعرُ بأن علمَ البلاغةِ والبيانَ يقف عاجزاً أمام هذه القامة النضالية، الإبداعية والنادرة في مختلف أوجهه !
هناك عدّة مزايا اتّصف بها “مجيد” المناضل، المبدع كما اتّصف بها آخرون أيضاً،، إلاّ أنه مَلَك خصلةً ميّزته عن الكل، تلخّصت في كونهِ يجسّد المواطنة البحرينية “الموزائيكية” بامتياز.. أشبه بتركيبةٍ سيمفونيةٍ لا تعرف التنافر، كأنه يعكس ميزة المواطنة الحقّة بأكثر صورها.. جمالاً، كمالاً وانسجاماً ! مهلاً .. أيها الكتّاب والفنانون والمثقفون، لا تبتعدوا كثيراً.. يا من تبحثون عن سرِّ إبداعات مجيدِ الموسيقيّة !
فهذا الخلاسيُّ قَدِم إلى هذا العالم نتيجة تزاوجِ خليطٍ اثنيٍّ، قوميٍّ ودينيٍّ – مذهبيّ، مجسِّداً في شخصه، التنوع المتناغم للإنسان البحرينيّ أوالبحرانيّ (لا فرق)، كما لم يتجسّد في سواه من المواطنين !.. أبوه عربيّ شيعيّ- بسحنةٍ فاتحةٍ - ذو منحىً “حلايليّ” (ريفيّ). وأمّه سوداء سنّيةٍ من أصولٍ فارسية ! ومنذ أن عرفناه كان يتكلم لغتيّ أجداده، بمثنويّة عجيبة، مالكاً ناصيتهما بفخرٍ واعتزازٍ، بعيداً عن أية عقدةٍ نفسيةٍ أو”مادونية”، التي عادة ما تؤرّق الكثيرين وتسبب لهم ألماً وشقاءً دائمين طوال حياتهم ! كان مجيدُ من أولائك الأشخاص، الذين بإمكانهم تحويل النقيصةِ الّسلبيةِ إلى إيجابيّة ملهمة (خصلة لينينيّة بامتياز) ! كان على معرفةٍ لبضعِ لغاتٍ ولهجاتٍ محكيّةٍ، ها هنا، كالأوردُيّة والبلوشيّة وغيرهما بجانب شقيقتهما الكبرى الفارسية، كما أسلفنا. كان أشبه بأُستاذٍ فيولوجيّ متخصّص في علم الألسن، الأصوات والكلام دون أن يدري. لكن لابد أنه كان على إدراكٍ وشغفٍ عميقين بجمالِ اللّغاتِ والّلهجاتِ البشريّة وعلاقتها العضويّة بالأصوات الموسيقيّة.. يستخدم لهجة “الميناويّة” مع ربعه في ملتقى “كلبهرام” وعند قصباتهم في القضيبيّة. يتكلم بلهجة “البستكيّة” الناعمة مع متحدثيها الأقرباء (تبدو أنها لهجة أمّه وبيته إن لم تخني الذاكرة). ويتفنن في استخدام لهجة “لنجة” مع رفاقه وأحبّائه في العوضيّة،، ويهمس أحيانا بلهجة “البوتشيريّة” المحرقيّة، كما يهمسون هم في بيوتهم مع جدّاتهم،، في الوقت الذي يحادث زملائه في العمل باللهجات “الكازرونيّة” و”البوشهْريّة” و”البيرَميّة”! هذا عدى أنه كان ضليعاً بالّلهجاتِ العربية المحليّة، العائدة لمختلف مناطق البحرين، بجانب مقدرته الأدبية في “العربية الفصحى” ! من يدري.. فمن الممكن أنه كان على درايةٍ بشىء من السواحليّة أيضاً؟! حيث كان مفتوناً بالفنون الإيقاعية الأفريقية، القادمة من ساحل أفريقيا الشرقية، التي تمثل أحد الروافد الأساسية لما يُسمّى بالفن الخليجي “الغنائيقاعيّ” ( وبعد كل ذلك.. مازلتم تبحثون عن سرّ إبداعه الموسيقي؟!)
عندما كنا نتحدث إليه بالعربية كان يصرّ وبعفوية صادقة أن يجيبنا بالفارسيّة، بالّلهجة الأكثر انتشاراً لدى العجم السنة ( لهجة لنجة)،، إسألوا رفاق دربه أبناء العوضيّة إن كنتم لا تصدقوني؟! كل هذا لأن سجيّته سبقت فكرَه الأمميّ..أضحت الأمميّة، كعقيدةٍ رحبةٍ بسعةِ الدنيا، جزءًا من تكوينه النفسيّ،، لم يتعلمها من بطون الكتب الصّعبة كما يفعل عادة المثقفون،، بل اقتلعها من مدرسة الحياة، في محيطه العائليّ وبين أصحابه البسطاء.. فقراء ومُسْتضعفي القوم في هذه الأرض المعطاء. أي أن مجيدَ كان أمميّاً، إنسانياً بالفِطرة،، لم تستهويه يوماً فكرة “العروبة”الخالصة، “القومية” الفضلى و”العصبية” القبلية، المتأتية جميعها من مفارقتيّ عقدةِ النقصِ وجنونِ العظمة ! ولم يركن يوماً على مذهبٍ دون آخر أو طائفةٍ دون أخرى ! بدل ذلك كان مجيدُ جامعاً في الإنتماء الوطني، مدرسة يجب أن يُقتدى بها ! كان يتباهى بأصوله المختلطة، يعتزّ بجذوره المتعدّدة ويفتخر بلونه الداكن ! بل هو من يقول عن نفسه :(مجيد سياه)!.. أتوجد شفافية، بساطة وصدق مع النفس أكثر من هذا ؟!… وها هنا علّة المعلول، أي .. جذر بسالته وصموده ونبع إبداعاته ونبوغه الإنسانيّ !
يا معشرَ الكتّاب والفنانين والبحّاثة، الذين أصابكم التّيْه في رحلتكم الإستكشافية المضنية عن كنوزِ مجيدِ الدفينةِ وقد أثاركم لغز هذا الإبداع الإشكاليّ ! لا تنأوّا أو تتوغّلوا أكثر ! ،،، إن مَن مِثل “مجيد” لا يمكنه إلا أن يعتزّ ويعترف بالأصول القومية جميعها، على قدمٍ وساق (الوعاء الطبيعي لكل فرد ضمن أمة من الأمم).. لكن كإنتماءٍ حضاريٍّ وجذرٍ إنسانيّ. لا كفكرٍ”سوبر” وعقيدةٍ سياسية “قومجيّة” ، التي تجنح عادة نحو الإنغلاق والتعصب، بل العسف والأستحواذ وتسفيه الأقوام والأقليات الأضعف، الأمر الذي قد يصل إلى شوفينية بغيضة، سببت للإنسانية جرائم لا تعدّ ولا تحصى. لكن عند مجيد الإنسان الفنّان، كانت بحورُ فكره، كألحانه الموسيقية، مفتوحةً على العالم الرّحب بلا حدود
سألته يوماً – من زمان – عن جوهرِ أو ماهيةِ الموسيقى ،، أجابني :” لغة عالمية، تجمع الإنسان أينما كان “! كان هذا درساً من أولى الدروس، التي تعلمتها على يدِ هذا الألمعيّ ، العصاميّ المتمرد ! كان ذلك عندما كنتُ زميلاً لأخيه إسماعيل في الصف الأول إعدادي بمدرسة الحورة الإعدادية في سنة 1962 (قبل أن تصبح ثانوية). ترافقنا – أنا وإسماعيل – مدة ليست بالقصيرة.. حدّثني كثيراً عن دواخل الأمور المتعلقة بأخيه الأكبر، مفصحاً أن مجيدَ كان واقعاً بين خيارين صعبين، بُغية مفاضلةٍ بين الهوايتين الأقرب إلى قلبه،، حيث كان قد قرر، أما أن يصبح موسيقياً أو قصّاصاً.. وقد اختار الأولى (الموسيقى)، التي سيطرت على أعماقه وعالمه الروحيّ ، أضحت نجواه الأبدية وشكّلت على الدوام بلسم حياته الصعبة والحزينة،، لم يتركها ولو هُنيهة، منذ صباه الأول حتى صبيحة الثلاثاء المشؤوم، حين انتشر الخبر كالنار في الهشيم .. ولبست البحرين السواد!
- يتبع –